IMLebanon

أزمة داهمة في زمن صعب

الأزمة المفاجئة مع المملكة العربية السعودية والخليج باغتت لبنان في لحظة اقتصادية غير مناسبة.

بصرف النظر عن الخلفيات السياسية للأزمة، وأياً كان المسؤول عنها، فإن علاقات لبنان الاقتصادية مع الخليج العربي تقع اليوم في موقع دقيق وحسّاس. وهي تقتضي، أكثر من أي وقت مضى، التنبّه إلى الأضرار المحتملة لأي تدهور جديد فيها، يضاف إلى التدهور الذي شهدته في الأيام الأخيرة. فحسابات لبنان الخارجية بلغت نهاية العام الماضي حدود أزمة جدّية لا يمكن المرور أمامها مرور الكرام.

سجّل ميزان المدفوعات اللبناني سنة 2015 عجزاً قيمته 3.35 مليارات دولار، وهو رقم يتطلب بعض التحليل لفهم أبعاده ومخاطره. فللمرة الأولى يسجّل ميزان المدفوعات عجزاً متوالياً لفترة خمس سنوات من دون انقطاع. في سنتي 2009 و2010 حققت حسابات لبنان الخارجية فائضاً كبيراً، لا سيما سنة 2009، حيث بلغ الفائض نحو 8 مليارات دولار. ومنذ سنة 2011 اتجه رصيد ميزان المدفوعات نحو العجز، وحافظ على هذا المنحى طيلة السنوات اللاحقة، حتى وصل في العام الماضي إلى المستوى التاريخي الذي أشرنا إليه.

من المستغرب أن يصل العجز إلى هذا المستوى في سنة تقلص فيها عجز الميزان التجاري بمبلغ 2.1 مليار دولار، أي بنسبة تقارب 12%. لولا هذا التقلص الاستثنائي في الميزان التجاري، ولو بقي رصيده كما كان سنة 2014، لبلغ عجز ميزان المدفوعات في السنة المنصرمة 5.5 مليارات دولار.

من البديهي أن الخليج العربي ليس القاعدة الوحيدة التي يستند إليها لبنان من أجل ضمان نموّه وتوازنه الاقتصادي، ولكنه كبير التأثير في حياتنا الاقتصادية منذ اكتشاف النفط في المنطقة قبيل استقلال لبنان. فهو يستقبل رجال الأعمال والمغامرين اللبنانيين الطموحين ويوفر الوظائف للشباب اللبناني، الذي هجّرته البطالة من بلد وقع أسيراً لسوء الإدارة وعدم الاستقرار. وهو من جهة أخرى مقصد الصادرات اللبنانية ومصدر الاستثمارات والتدفقات المالية التي تؤمّن توازناً بل، أحياناً، فائضاً في ميزان المدفوعات.

قد يقرّر لبنان أن يولي الأهمّية الأساسية لمصالحه الاقتصادية في علاقاته مع السعودية وبلدان الخليج. وقد يقرّر عكس ذلك، فيرفض تحديد سياساته الخليجية والإقليمية في ضوء هذه المصالح مغلّباً عليها أولويات أخرى، فيقلب للخليج ظهر المِجنّ، ويحوّل صداقته التقليدية معه إلى عداوة وخصام.

المهمّ أن تكون هناك سياسة واحدة للدولة اللبنانية حيال علاقاتنا العربية، لا سيما في ظروف الصراع الإقليمي المحتدم.

كان المرحوم منح الصلح يقول في المجالس الخاصة إن أسوأ ما وصل إليه الانقسام الطائفي في لبنان هو أن يعطى لكل شيء في البلد صبغة طائفية. فهناك أغنية مارونية و «طبخة» شيعية ولحن سنّي وفستان أرثوذكسي…

لكن الحالة التي نعيشها اليوم هي أقبح من ذلك بما لا يقاس. ففي زمن الفراغ الرئاسي والانحلال الحكومي باتت سياسة الدولة في كل مرفق من المرافق مرتبطة بشخص الوزير وخياراته الخاصّة، المنبثقة من التزامه السياسي. أي أصبحت هناك في قلب الحكومة الواحدة سياسات مستقلة ومتباعدة، بل متناقضة. عندنا، مثلا، سياسة صناعية شيعية وسياسة صحّية اشتراكية وسياسة كتائبية في وزارة العمل، ناهيك عن السياسة الخارجية، التي باتت خاضعة لتقدير الوزير.

والوزير، في كل الوزارات، ليس مسؤولاً عن هذا المآل، لأنه وجد أمامه فراغاً كاملاً وغياباً للسياسات المركزية، فلجأ إلى ملء الفراغ بالشكل المناسب لارتباطاته السياسية.

وهذا الواقع، على مأساويته الأكيدة، يمكن أن يُقبل على مضض في الزراعة والصناعة والأشغال والبيئة، أما أن يمتد إلى علاقات لبنان الخارجية، وينتقل إلى المنابر والمؤتمرات العربية والدولية، فهو أمر بالغ الضرر والخطورة.

فعلى الحكومة أن تقوم بواجب الحدّ الأدنى وتملأ هذا الفراغ القاتل. عليها أن تحدّد سياساتها الخارجية، لا سيما في النطاق العربي والخليجي، على قاعدة التوافق ومصلحة البلاد الاقتصادية والخيارات المشتركة بين اللبنانيين.

وبانتظار وضع مثل هذه السياسة، إذا كان ذلك ممكناً، يُفترض بالدولة أن تجد علاجاً سريعاً للتدهور المتسارع في العلاقات مع دول الخليج تلافياً لما هو أسوأ وأدهى. فالتدابير التي اتُخذت بحق لبنان أضرت بالشعب اللبناني كله وشكلت عقاباً جماعياً للبنانيين، ولم تقتصر على من تعتبره الدول الخليجية مخطئاً بحقها. وتحمّل الجيش اللبناني القسط الأكبر من العقاب، وهو خط الدفاع الأخير للدفاع عمّا بقي من وجود الدولة اللبنانية وأمن المواطنين.

لعل أوّل ما يخطر بالبال هو تفويض «أمّ الصبي» الرئيس نبيه برّي والرئيس الصابر تمّام سلام، تفويضاً مطلقاً، بمعالجة المشكلة المتفجّرة ووقف التدهور عند الحدّ الذي وصل إليه.