IMLebanon

الجاهزية الدائمة للمبادرة «رئاسياً» المدخل الوحيد لـ «التسريع»

 لا يشعر المرء بكمّ التعقيد والعبثية والثراء في آن للتركيبة السياسية اللبنانية إلا عندما يكون بصدد شرحها لبرلمانيين وديبلوماسيين وأكاديميين من بلدان أخرى. أن تشرح أمامهم أنّ البلد من دون رئيس جمهورية منذ عامين ونصف العام، ومن دون انتخابات نيابية منذ سبعة أعوام، ومن دون سلطة تشريعية منذ وقوع الفراغ الرئاسي، كون الدستور يحصر في حال خلو السدّة مهمة النواب بانتخاب رئيس فقط لا غير، وأن لا يكون هناك من قانون انتخابي جديد متفق عليه، فيما المدة الممددة لها مرتين للمجلس الحالي تقترب على الانتهاء، فسرد كل هذا دفعة واحدة على برلمانيين وديبلوماسيين وأكاديميين من بلدان أخرى يُحدث مفعول الدهشة، بل الصدمة. يدرك هؤلاء التوزع الطوائفي للمناصب الرئيسية في الدولة اللبنانية، والتوزع الطائفي لمقاعد البرلمان وأعضاء الحكومة، لكن الأصعب لديهم هو استيعاب كيف يقوم «النسق اللبناني» بإقفال نفسه بنفسه.

طبعاً، دور «حزب الله» هنا يختلف عن دور سواه. فهو المستثمر الأول في أنماط التعطيل والتفريغ هذه. وكثيراً ما يتهمه أخصامه بأنه يفعل ذلك من أجل المزيد من التحكم والتطويع للتركيبة ككل، وهذا ليس خاطئاً، لكنه ليس كافياً. فالحزب يزكي خيارات التعطيل والتفريغ أيضاً لأنه لا يمتلك كل مفاتيح التحكم والسيطرة، وبسبب من طبيعته نفسها، وهذه لا يمكن لأحد أن يسعفه في حلّ إشكاليتها.

في الفراغ الرئاسي، هناك فارق أساسي لا يجب تمييعه في أي لحظة. فارق بين من لم يستجب لما يطلبه الدستور من النواب من حالة انعقاد دائمة حتى انتخاب رئيس وبين من استجاب لذلك. الفارق بين ترشيح اسم وترشيح آخر يبقى ثانوياً، مهما كانت أهميته، ومهما كان الجدل متاحاً حول ما يتفاضل به مرشح على آخر، أو ما يجعلهما يتماثلان في جوانب، ويختلفان عن بعضهما البعض في جوانب أخرى.

لكن هذا الفارق لا يعفي من ضرورة الحيوية. بما تعنيه هذه الحيوية قبل كل شيء من جاهزية دائمة لاجتراح مبادرات واقتراح حلول. لا يمكن بأية حال تفضيل الفوضى أو الفراغ على أي وضع يضمن تقليل هذه الفوضى أو تعبئة هذا الفراغ.

فمهما كان حجم الاستعصاء في هذا الشأن، وحده المحتكم لسلاحه، أو لهالة سلاحه، في الوضع الداخلي، يمكنه أن يطمئن الى هذا الاستعصاء ويطلب المزيد منه. أما القوى صاحبة المصلحة في الابتعاد عن معادلات السلاح والتطرف وعدم الدخول في مهاترات ومزايدات تدور في حلقة مفرغة، فهي ذات مصلحة دائمة، في اجتراح مبادرات واقتراح حلول للاستعصاء والإقفال، ولا يمكن بأية حال أن تفضّل الفوضى أو الفراغ على أي وضع يضمن تقليل هذه الفوضى أو تعبئة هذا الفراغ. الاستكانة للجمود بدعوى شراء الوقت لا يمكن أن تنفع على الدوام. في السياسة، عليك دائماً أن تتميز باقتراحك شيئاً ما، يقدّم كمخرج ما، حين تبدو الأمور مستعصية، وعالقة في متاهة.

الدساتير تقوم على منطق أساسي، وهي أن أياً من موادها لا يمكن أن يُقرأ على أنه بمثابة تسويغ لتعطيل الدستور ككل أو تفريغ المؤسسات الدستورية. الدساتير مبلورة وموضوعة كي تحد سلطة من سلطة موازية لها، وفي النظام البرلماني كي تنبثق السلطة الإجرائية من رحم السلطة التشريعية. لكن الدساتير غير موجودة لتسويغ تعطيل وتفريغ أي سلطة، وكل تفسير اعتباطي لمادة من موادها بهذا الشكل هو تفسير غير دستوري بالضرورة.

عندما تقع في حفرة، أول شيء عليك أن تفعله هو وقف الحفر. كذلك الأمر عندما تقع في حالة تفريغ أو تعطيل وتبدو الأمور مقفلة ومستعصية. ينسجم ذلك تماماً مع منطق الفكرة الدستورية: عدم الاستكانة لأي انسداد، البحث دائماً عن ثغرة للإفلات منه.

وفي الملف الرئاسي، هذا يعني عدم تقييد الحركة السياسية للمطالبين بإحياء التقاليد الدستورية باعتبارات شرطية مطلقة ومسبقة، غير تلك المتصلة بوجوب الضغط لالتزام النواب بالواجب الدستوري الذي يقضي بالانعقاد الدائم حتى انتخاب رئيس، وليس أي عمل آخر. لا يمكن بالتوازي، عدم رؤية الحيثيات المختلفة للمرشحين، ولا يمكن اعتبار أن هناك أي حيثية «تلقائية الإملاء» على النواب.

في الساعات الأخيرة تأرجحت التوقعات والانتظار علواً وهبوطاً في الرأي العام، وفي المتداول الإعلامي والسياسي. من كل هذا الإبهام هناك أمل بأن تكون هناك دفعة حيوية جديدة للتسريع بالملف الرئاسي، قبل أن يصطدم دوام تأجيل هذا الاستحقاق، باستحقاق نهاية المدة الممدد لها للمجلس النيابي، ونقع في «حيص بيص» إضافي.

حتى لو أن هذه الآمال لم تجد مصداقاً عملياً لها في فترة قريبة، فإنّ تسريع الانتخاب هو الكلمة الجدية الوحيدة في الوقت الحالي، وهي تلتقي بشكل أو بآخر مع الضغط المدني الذي انتعش مؤخراً للضغط على النواب الذين يعترضون سبيل انتخاب رئيس جديد للبنان.