المدينة ليست في وعينا. كانت كذلك لدى أسلافنا، سواء اعتبرناهم عرباً أم فينيقيين. معظمنا يسكنون المدينة خلال الأسبوع، ويمضون آخر يوم أو يومين في الريف. يمارسون السياسة خارج المدينة. ينعكس ذلك على الوعي السياسي لدى غالبية الناس، وعي بلدي (بلديات) دون وعي وطني سياسي.
هواء المدينة يجعل المرء حراً، كما كان يقال في القرون الوسطى. لكن عقلنا مغلق ووعينا متهافت. أُغلق العقل بالطائفية، تهافت الوعي بالأصولية. هذه أدت إلى تلك. لدينا في أنفسنا الكثير منهما؛ وذلك برغم اعتزازنا بالحرية في لبنان، وهي صارت أشبه بالفوضى مع انعدام السلطة وغياب مفهوم الدولة، وبرغم اعتزازنا بالديموقراطية التي أغلقنا مؤسساتها. إغلاق العقل وجه آخر لإغلاق بوابات مؤسسات العاصمة كمركز سياسي. وفي الحالتين لا يعود لازماً بقاء المدينة كعاصمة.
عقلنا يحمل وعي بلديات ونكايات وعشائريات وعائليات لا وعيا بالدولة. الدولة مفهوم للمواطنية، ولسنا مواطنين، بل رعايا الطوائف؛ الطائفية تنزع عنا صفة المواطنية، تجعلنا رعايا؛ الدولة في حالة انحطاط حتى لا تكاد تحتاج إلى عاصمة؛ لذلك نضطهد المدينة. كان وعينا بالمدينة قبل الحرب الأهلية أفضل مما هو الآن. كانت تمدنا بموضع السياسة والصناعات والحرف، وكان خارجها يمدها بخدمات الماء والغذاء وغيرهما. وما كان هناك تنافس بين المجالين؛ وما كان هناك كره لدى الواحدة للثانية.
إلغاء السياسة بالطائفية الفجة الأصولية يؤدي إلى إلغاء أو تخثير السياسة فلا تبقى الحاجة إلى ساحة المدينة للحوار والنقاش. يضمر المجال العام. يكون الإنسان حراً في المدينة بمقدار ما يكون نكرة غير معروف. في هذه المدينة كلنا يعرف كلنا، تقريباً.
مع ارتفاع الأبنية وأهمية ثقافة الإنجاز، يغار خارج المدينة الذي لا يحاول الارتفاع بل إهباط المدينة إلى مستواه. تزداد الريفية في أحشاء المدينة. تختفي ثقافة الإنجاز بسبب انتقال الصناعة والتجارة ومعظم الحرف والمهن إلى خارجها. لم نعد بحاجة للعمل لكثرة الهجرة والتحويلات وحسابات المصارف؛ وأحياناً كثيرة لا هذا ولا ذاك فيكثر الحقد على المدينة. تصير الحالة وكأن المطلوب تخريبها. تخريب الآثار في كثير من البلدان المحيطة هو في جوهره تخريب للمدينة، تخريب لبقاياها الأثرية، تخريب للتاريخ وللذاكرة التي تحملها؛ وقد كان أسلافنا بناة مدن وعواصم حقيقية.
تزدهر المصارف لا غيرها، أما سوليدير فهي تتراجع، كان يفترض أن تصير هذه مركز المدينة، لكن الموجودات الحقيقية موجودة في أقبية البنوك، وما عادت هناك حاجة لمركز المدينة إلا في بضعة مطاعم. سوليدير مركز لمدينة نزعت وظائفها منها؛ يصير خاوياً بأبنية فارهة ومنطقة تسلية ليلية باهتة. حتى التسلية في طرف سوليدير ثانوية بالنسبة لمناطق أخرى في بيروت ولبنان. لم تعد مسألة المركزية أو اللامركزية مهمة في بلد خلا من المركز؛ والحقيقة أنه خلا من السياسة والوظائف التجارية والصناعية الكبرى. تراجع دور المدينة لأنها لم تعد مركز العمران. صار العمران موصولاً من الشمال إلى الجنوب. منطقة ريفية شبيهة بالمدينة، أو منطقة مدينية شبيهة بالريف. لكن انعدام المركز يعني انعدام الإرادة، وهذه قاعدة السياسة وأخذ القرارات. بلد من دون قرارات، مؤسسات حكومية من دون هيبة. لا هيبة مع الانهيار.
نضطهد المدينة لأننا نضطهد المجتمع. المجتمع يضطهد نفسه. في الطائفية الجديدة لا لزوم للناس إلا كأدوات، أدوات راضية بمن يقودها، جماهير تمارس على نفسها الانقماع الذاتي. يمارسون على أنفسهم ماسوشية قوامها القول إننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً للتغيير. في كل مدينة تختلط الرذيلة بالفضيلة، والماسوشية بالسادية؛ إلا في هذه المدينة حيث توزعت الرذيلة إلى خارجها، وتحولت السادية إلى بضع جرائم يومية تبدأ بها نشرات الأخبار التي تؤكد في كل حين على لا جدوى الدولة والسياسة والأخلاق والمؤسسات. لا نرى إلا الفساد ورائحته في كل مكان. العمران مغضوب عليه. يريدون عمراناً من دون فساد، وفضيلة من دون رذيلة، وسادية من دون ماسوشية. يتراجع دور المدينة لأنها لا تستقيم إلا بكل ذلك.
اضطهدنا المدينة فأُصبنا بالعجز. حاولنا نقل «طهرانية» الريف (وهي أمر مشكوك فيه) إلى المدينة، فإذا بنا نخسر المدينة والريف معاً؛ نخسر الدولة. ثم نصرخ أين الدولة. هي في كل منا منزوعة من قلوبنا.