قبل أن «يردّ» الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني على وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بتناول سيرته الشخصية، وتعييره بأنه كان مسؤولاً عن «جهاز استخبارات»، سبق له وأن «ردّ» أكثر من مرّة وبالأسلوب «العميق» ذاته على مواقف الرئيس دونالد ترامب من إيران وارتكاباتها.
وَصَفَه بـ«المبتدئ». وبأنه «رجل أعمال يفتقر إلى الخبرة السياسية».. وبأنّه «بذيء».. «تاجر لا يعرف شيئاً في السياسة».. «عليه تعلّم الأدب».. «سخيف» و«جاهل»، وغير ذلك الكثير من النعوت والأوصاف التي يدخل بعضها في شكل السياسات لكنه بالتأكيد لا يصنعها وخصوصاً في دولة عظمى وحيدة من نوعها في هذا العالم وفي التاريخ!
وذلك ما يدعو إلى الاستغراب. باعتبار أن رئيس دولة «محورية» مثل إيران يُفترض به أن يعرف مبدئياً وتلقائياً وبديهياً، أن الخصال الشخصية في الديموقراطيات الكبرى تُبهرج المواقف السياسية وتلوّنها لكنها لا تؤثر تأثيراً حاسماً أو تاماً في تشكّلها.. وإن صاحب الشأن السلطوي يخضع للمساءلة والقانون وليس لمزاجه الشخصي.. وان الآليات الدستورية والرقابية والمؤسساتية كافية لمنع بروز الغواية أو الذات أو الرأي الخاص في قضايا «الأمة» والدولة والمصائر. بل أكثر من ذلك بكثير: يسري مفعول تلك الآليات بحذافيرها وتفاصيلها إزاء الكبيرة والصغيرة.. وأي شبهة صرف نفوذ وتقاطع مصالح، حتى لو تعلّق الأمر بهدية شخصية أيّاً تكن تفاهة ثمنها، تعرّض صاحب الشأن لمساءلة كبيرة..
والأبدى والأهم في تلك الآليات الانتباه (بالتأكيد العنيد) إلى أنها تسري على التحكّم بـ«الزر النووي» والأسلحة الإفنائية القادرة على تدمير الأرض وما عليها، بحيث لا يخضع الأمر (وأي أمر؟!) لمؤهلات حامل الحقيبة. ولا لخصاله الشخصية. ولا لقدراته الذهنية أياً تكن.. ولا لافتراضه أو عدم افتراضه أنه نصف إله! أو وليّ فوق بشري! أو منذور من رب العالمين لإيصال رسالة أو تنفيذ إرادة..
قد تكون بعض الأوصاف التي يسبغها الشيخ روحاني على ترامب تحديداً متداولة في كل مكان. وفي الولايات المتحدة قبل غيرها وأكثر من غيرها، لكن ما علاقة ذلك بالقضايا المفتوحة مع طهران؟! وبأدوارها الخارجية المدمّرة؟! وهل كانت هذه أقل تدميراً وعبثاً وخسراناً عندما كان «المثقف» باراك أوباما في «البيت الأبيض»؟! أو كانت مقبولة أو ممكنة أو أخلاقية أو «شرعية» لأن رئيس أميركي طنّش عنها، أو غضّ النظر، أو تخابث إزاءها.. أو رأى فيها فرصة غير مسبوقة لإشعال الأرض تحت أقدام «أعداء» كثر، وتحقيق غايات استراتيجية كبرى من دون ارتكاب أخطاء التدخل المباشر! ومن دون خسارة جندي أميركي واحد! ومن دون دفع دولار واحد!
.. والأغرب هو أن الشيخ روحاني نفسه كان (ولا يزال؟) صاحب «رؤيا» لا تختلف في خلاصاتها عن تلك الكامنة في المواقف الأميركية المتصاعدة! كان يعرف أن سياسة إيران الخارجية ستولّد الكوارث لها ولغيرها. وإن المقاربة العدائية المفتوحة مع العالمَين القريب والبعيد لن تحلّ الأزمات الداخلية بل ستعمّقها. ولن تقدّم حلاً لأي معضلة اقتصادية أو تنموية أو حداثية، وأن التبشير الديني المذهبي في الألفية الثالثة ضرب من ضروب العبث المصفّى! وإن السعي بين أقوام الآخرين لن يغيّر من هوياتهم ومعتقداتهم ويقينياتهم بل سيدعّمها ويثبّتها! وإن ادّعاء «الثورة» في مكان و«الدولة» في مكان انتهى إلى دمار أصحابه السابقين و«الأصليين» (في الاتحاد السوفياتي الراحل مثلاً!) وان تعمير البنى «الإقليمية» و«المحورية» و«القطبية» على أرضية صلصالية رخوة مآله الخسران الذاتي الأكيد!
ويعرف الشيخ روحاني (على ما أبلغه علناً وزير داخليته وليس غيره) أن أسباب الاحتجاجات التي انفجرت في إيران وتعود لتنفجر شيئاً فشيئاً، كانت موجودة أيام أوباما «والفتوحات الخارجية» في عهده! وبقيت موجودة أيام ترامب وبدء العدّ العكسي لتلك الفتوحات! وهي في الأصل (تلك الاحتجاجات) لم تكن وليدة تآمر خارجي بقدر ما هي انعكاس لسياسة إيران الخارجية.. وإن الإيرانيين (ونحو ستين بالمئة منهم من جيل الشباب) «غير راضين عن شيء» في أداء النظام، مثلما قال حرفياً وزير داخلية النظام! وإن الذين هتفوا لروحاني نفسه عند انتخابه بأن «لا سوريا ولا لبنان ولا اليمن بل إيران أولاً»، هم الذين صوّتوا له في صناديق الاقتراع.. ولم يكن ترامب رئيساً لأميركا، ولا بومبيو وزيراً للخارجية آنذاك!!
شخصنة الشأن السياسي العام، طقس شرقي مألوف، لكنه بعيد في الغرب بُعد الغرب عن الشرق! ويوازيه في الأداء الإيراني تحميل الآخرين مسؤولية الفشل الذاتي.. ثم محاولة تصوير المعضلة باعتبارها متعلقة بخصال رئيس أميركا أو خلفية وزير خارجيته، وليس بحاصل جمع مبدأ «تصدير الثورة» والذي لا يكفي توصيف «النكبة» لاختصاره!