IMLebanon

شخصية العام

نَدَهَ رئيس دائرة الموسيقى في الإذاعة اللبنانية، حليم الرومي، على عازف الفرقة، عاصي الرحباني وقال له تعال اسمع. ثم طلب من الصبيّة ذات الضفيرتين أن تُسمعهما معاً ما كانت قد أسمعته قبل قليل. فوقفت خجولة تنظر إلى الجدار وتُغني “يا ديرتي مالك علينا لوم/ لا تعتبي لومك على مَن خان”. عندما أفاق الاثنان من سِحر الصوت الجديد، قال حليم الرومي لصاحبته: بعد اليوم لم تعودي نهاد حداد. أنتِ فيروز الشرق.

للبنان الكبير وُلدت يومها نجمة توسِّع نوره الصغير. ومن أصغر العواصم العربية راح الصوت الألماسي يغنّي مدن العرب: مكة، القدس، شام، البتراء، ودْراج بعلبك، كما تغني لجارها الوديع قمر مشغرة. لم يكن لبنان يومها يحلم بمثل هذه الأيقونة يعلّقها في قلب رايته. فقد كانت الأشياء فيه وادعة متواضعة إلا طبعاً من ذوي الإبداع العابر للحدود والقارات. الفقراء والمساكين الذين هاجروا بلد الأرز والمجاعة ليتحوّلوا إلى شهبٍ في سماء العرب، جبران خليل جبران، مي زياده، جرجي زيدان، جورج أبيض، عزيز عيد، فاطمة اليوسف، ومجموعة من الروّاد الذين حلّقوا في الفنون وفي الآداب بينما كان لبنان يتمزّق داخل شرنقته محاولاً التحليق في ثوب فراشة ملوّنة.

عندما احتفلت فيروز قبل أسابيع بعامها الثمانين كعادتها في صومعتها المجهولة المكان، امتلأت مواقع التواصل بتغريدة للشاعر عبداللطيف آل الشيخ تقول: “ثمانون عاماً وفيروز واحدة، لا فيروز سواها”. تولّى الشاعر السعودي الشاب عن شعراء لبنان الغيّاب، الاحتفاء بذات الصوت التي حلّقت بقصائدهم فوق النجوم. الأخطل الصغير، سعيد عقل، عاصي الرحباني، ومنصور الرحباني، وجبران خليل جبران، ناهيك طبعاً بشعراء العرب وأميرهم التركي الكردي أحمد شوقي. لم يحتلّ لبنان مكانه العربي كما يجب، لا في نص الميثاق ولا في نص الدستور، بل عندما اجتمع له ثلاثة من عباقرة جباله وشواطئه، عاصي ومنصور وسيدتي الجميلة. هكذا مرة قال لي كاتب “الإخوان المسلمين” الأستاذ محمد فهمي هويدي أنه يهوى فيروز دون سواها. ولما سألته إن كان يفهم بعض الأشياء العامّية في غنائها، أجاب: “وهل ذلك ضروري حقاً إذا كانت فيروز هي التي تغنّي؟”. كان الموسيقار محمد عبدالوهاب يأتي إلى لبنان ليجلس على الأرض في منزل الرحابنة مُصغياً إلى فيروز تغنّي. وقد قال منذ أن تعرّف إلى الأسرة الثلاثية العظيمة، إنها، أي الأسرة، “غيّرت واقع الموسيقى والأغنية في الشرق”. وفي هذا الشرق الذي كانت كوكبه وما زالت، أم كلثوم، تحوّل الرحابنة إلى أكبر حزب شاعري مسرحي موسيقي طوال عهود كثيرة. ولم تتألّق فيروز بصوتها الغنائي فحسب، بل تألقت أيضاً بحنجرتها الحاكية المليئة حزناً وغضباً وحناناً وسخرية عندما راحت تمثّل أدوار الأميرات والقرويّات والمسكينات في ساحة الضيعة وساحات المدن. وإذ كانت تهتف مرة محاكية جدّتها التي صمتت فجأة على الجانب الآخر من الهاتف: “ستّي يا ستّي”، شعرنا جميعاً أن الجدّات حول الأرض قد غادرن هذا الكوكب.

حاولت أن أتجنّب الكتابة عن فيروز في يوم عيدها. فعندما أكتب عنها أفقد ضوابط النفس الضعيفة، وأعود فتىً وشاباً وشارداً وهائماً وتائهاً بين القصائد الضائعة والمروج الساهرة في ضوء القمر ومتعة العشق وعبقرية الحرمان. وكما قال أنسي الحاج مرة إن انتماءه الوحيد كان إلى الرحابنة، فإني أيضاً في ذلك الصف من الهواة والحالمين الذين لم يعثروا على مرافئهم إلا في الظاهرة الرحبانية التي نحتت لنا من الخريطة الصغيرة المبقّعة، وطناً بلا حدود، ولا فوارق، ولا عنصريات، ولا طوائف، ولا أحقاد، ولا صغائر، ولا انتقامات. وطن مثل صفحة المتوسط الأزرق وروابي ضهور الشوير وأعالي صنين، تراوح ألوانه ما بين النقاء والأكثر صفاءً.

وكم سرّنا نحن الذين تنقّلنا في العالم العربي، من مغربه إلى مشرقه، أن نرى هذا الوطن في الدار البيضاء، أو البحرين، أو دمشق، أو تونس وقرطاج، معتزّين دوماً بأن الذين يتقاتلون في الخنادق وخلف المتاريس ليسوا في الحقيقة من بلد الرحابنة ووطن فيروز.

يُنسب إلى الرئيس جمال عبدالناصر في عزِّ سطوته الجماهيرية أنه خشي على التفوّق المصري الفني من صوت فيروز، فقال لمن حوله: هاتوا لنا فيروز مصرية على وجه السرعة. وقيل يومها إن عفاف راضي قُدِّمت على أنها فيروز مصر. ولكن كما كانت هناك أم كلثوم واحدة لا تتكرّر في الأجيال، لا هي ولا منديلها ولا حضورها الكامل، كانت هناك أيضاً فيروز واحدة أشبه بالبحر لا يكرّر إلا نفسه.

لو كانت للعرب جائزة نوبل للسلام لقدّموها إلى فيروز في ثمانينها. لأن أحداً في هذا الشرق لم يمثِّل سلام الروح وسكينة العرب كما جسّدته هي منذ البدايات، حيث لم تنصرف إلى غناء العامّيات اللبنانية فقط، بل مضت تغنّي القصائد من أبو النواس إلى بدوي الجبل، وإلى ذلك غنّت الفولكلور العربي والموشحات الأندلسية، وحتى “الطقاطيق” وأغاني الأطفال و”تيك تيك تيك يامّ سليمان” قبل أن نصل إلى عصر “بوس الواوا خلّي الواوا يصحّ”.

نسينا في لجّة عشقنا لفيروز أنها بشر تُدعى نهاد حداد. والسبب طبعاً هو فيروز. فقد أخفت عنّا ما يصيب البشر جميعاً، ونأت بهمومها وأوجاعها وأحزانها إلى عالم بعيد لم نكن نسمع عنه إلا يوم الجمعة العظيمة إذ كانت تقف في كنيسة مار الياس في انطلياس لتنشد على درب الآلام “أنا الأم الحزينة”. لكن الأم الحزينة كانت أيضاً أماً نبيلة مترفّعة تحرس بكل قواها العطوبة صورة السيدة الأيقونة التي لا تريد أحداً أن يتطفّل على عالمها الأقرب إلى الخيال الجميل منه، إلى وقائع الحياة الشرسة والظالمة المفترية أحياناً.

لم تتحوّل فيروز إلى إشاعات في المجلات الفنية، أو إلى دعاوى في الصحف، أو إلى همسات في مجتمعات الظلّ، أو إلى وشوشات في الكواليس. ولم يكن هذا الصمود سهلاً، بل له أثمانه من الأرَق والتجلّد والصبر. غير أنه كان خيارها الأول والأخير، مع عاصي، ثم من دونه. طبعاً السكن في رأس القلعة لم يحمِها من الناس، والانحباس في الصومعة لم يردّهم عنها. فهذه طبائعهم في كل الحالات. غير أنها استخدمت في الردّ شيئين، أحدهما لا يملكه غيرها: الصوت والصمت، ومثل صوتها العالي كان صمتها رفيعاً محلّقاً حيث تصل أعلى مراتب الصوت الجميل. لم يحكِ أحد حكاية لبنان مثل فيروز. لم يُعطِه أحد مجداً مُنقىً مثل فيروز، مصفاً أثيرياً كما أعطته هي عبر السنين. ليتها رأت أمس في لندن ذلك اللاجئ السوري الملتحي الذي يضع في سيارته شريطاً واحداً عنوانه “فيروزيات”. ليتها تسمع في الرباط صوتها آتياً من البيوت، كما كانت تسمع الأغاني من بيت الجيران في زقاق البلاط. ليتها تقرأ ما يُقال عنها في مواقع التواصل في موريتانيا. لكن فيروز لا تقرأ سوى ما يُحنّن القلوب ويُدفئ الأفئدة ويُثري مواسم العزّ.

ولا حلّ. فلن يُخرجها من صومعتها أحد أو شيء. أحياناً يُقال لي إن نهاد حداد قد طلبتني. لكنني لا أحاول الرد على المكالمة. فإنك لن تعثر على هاتف يرُدّ. لا الآن ولا بعد عام. فهي تخرج من الصمت للحظات فقط ثم تعود إليه، لتتأمل من حولها هذا العالم الذي كلما غنّت له “القمر بيضوّي عنّاس والناس بيتقاتلوا”، مضى هو يُقاتل نفسه ويُقاتل الآخرين ويُقاتل السَكينة في النفوس.

كنت أنوي أن أسمي رئيس وزراء كندا الجديد جستن ترودو شخصية العام، هذه السنة، لأنه من بين جميع زعماء الأرض شكّل حكومته على شاكلة بلده: نصفها نساء، ووزير الدفاع فيها من الهنود السيخ، ووزيرة الديموقراطية مريم منصف، من أفغانستان، البلد الذي رئيسه في بلاد “طالبان” متزوّج من مسيحية لبنانية. لكنني عُدت ففكّرت، لماذا ليس فيروز التي تشكّل في ذاتها تعدّدية العرب، وتنويعات لبنان، وتقاسيم الهناء، وتغاريد المحبة وصورة الغفران.