ثمّة محاولات لإسقاط ملف الفساد قبل أن يُبصر النور، ويأخذ طريقه إلى التنفيذ، ويتحوّل إلى سلسلة خطوات عملية تؤدي الأهداف الوطنية منه, وفي مقدمتها كشف مكامن الهدر والفساد, ومحاسبة المرتكبين, مهما بلغت مراكزهم، ورفع الغطاء السياسي عن المشتبه بهم، ليأخذ التحقيق مداه كاملاً، بعيداً عن التدخلات السياسية والحمايات الحزبية.
كما أن ثمة محاولات لتسييس مكافحة الفساد، والإيحاء وكأن هذه الآفة السياسية الخطيرة, لها هوية حزبية، ولها لون طائفي محدد، بحجة أن معظم ملفات الفساد محصورة بتيار سياسي معين وبمسؤولين وكبار موظفين محصورين بطائفة واحدة، وبمرحلة زمنية محددة!
من أهمية المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس فؤاد السنيورة يوم الجمعة الماضي، أنه لم يكن يُدافع عن نفسه, ولا عن مسؤولية حكومَتيه, الأولى والثانية, في أحرج الأزمات التي مرّ بها لبنان في السنوات الأخيرة وحسب, بل كان يسلط الأضواء على مخاطر انحراف قطار مكافحة الفساد عن خطه الصحيح, وتداعيات هذا الانحراف, ليس على التسوية السياسية الراهنة فقط , بل وأيضاً على هذا الاستقرار المالي والسياسي الهش, ومضاعفاته في تضييع فرصة الإنقاذ الأخيرة عبر مساعدات مؤتمر سيدر.
الواقع أن عدم اعتماد برنامج أولويات من النائب حسن فضل الله في فتح ملف الفساد, الذي يريد حزب الله الدخول من بابه على الإدارة, وإزاحة ما قد يعترضه من عرقلات, وإعطاء الأولوية لما سمي «مستندات وزارة المالية», على حساب قضايا فسادية أكثر إلحاحاً, قد أثار الكثير من الشكوك, واستدعى هذا الرد المباشر والقوي, ليس من الرئيس السنيورة شخصياً فقط , بل بما يمثل الرجل من نهج سياسي, وما يملك من موقع في التجارب التي مر بها لبنان منذ انتهاء الحرب, وتولي الرئيس الشهيد رفيق الحريري, قيادة مرحلة إعادة بناء ما دمرته الحرب.
فالكلام الاتهامي حول المستندات المالية لم يقتصر على مرحلة حكومة معينة, بل غمز من مرحلة التسعينات, وصولاً إلى حكاية إبريق الزيت وعنوانها المستحدث: «المليارات السنيورية»! إلى جانب, طبعاً, أصابع الاتهام التي وُجّهت إلى المؤسسات المحسوبة على الحصة السنّية في كوتا المراكز الأولى: مجلس الإنماء والإعمار, أوجيرو, هيئة الإغاثة, وغيرها. الأمر الذي أفقد الكلام عن مكافحة الفساد الكثير من مصداقيته, بل وأظهره, وكأنه عملية تصفية حسابات حزبية وسياسية ضد فريق سياسي هو تيار المستقبل, وضد مواقع طائفة بعينها هي الطائفة السنيّة!
أين الفساد في قطاع الكهرباء مثلاً؟ ماذا يجري في مجلس الجنوب؟ وماذا عن صندوق المهجرين؟ ومَن يُتابع ما يُحكى عن بعض القضاة؟ وأين ملفات صفقات الفيول التي كلفت الخزينة المليارات, وحجبت استعمال الغاز في محطات توليد الكهرباء؟ وماذا عن المليارات الضائعة على الجمارك في مرفأ بيروت والمداخل الحدودية البرية…؟
لسنا بوارد اتهام أحد في المؤسسات التي ذكرنا, على سبيل المثال لا الحصر, ولكن من حق أبناء الطائفة السنيّة أن يتساءلوا: هل العاملون في هذه المؤسسات كلهم من الملائكة, والعاملون في المؤسسات الأخرى هم من شياطين الفساد والهدر, والاستيلاء على المال العام؟
في الجانب السياسي, لا يمكن عزل الحملة المفاجئة ضد الرئيس السنيورة, عن محاولات استهدافه المستمرة, منذ حكومته الأولى وحصار السراي, وقبلها التهمة الملفقة في قضية محرقة برج حمود. ولكن المعركة المستجدة اليوم تستهدف الإطاحة بآخر رموز الحريرية السياسية, وأحد أبرز قادة «١٤ آذار», والمدافع الدائم, وبشراسة, عن مشروع الدولة والسلطة الشرعية, بمواجهة قوى الأمر الواقع.
مسار الحملة يوحي بأن أصحابها يراهنون على حالة الفتور السائدة بين السنيورة والرئيس سعد الحريري, وبالتالي استغلال فرصة الاستفراد بالأول… ولكن الحضور السياسي الكثيف من أقطاب في «١٤ آذار» ونواب المستقبل, وفي مقدمهم رئيسة الكتلة النائب بهية الحريري, أثبت أن تلك الرهانات واهية, وعند الجدّ تتشابك الأيدي وتتوحّد الصفوف, للدفاع عن مسار سياسي تحمّل الكثير من التضحيات والافتراءات في سبيل إنقاذ لبنان من انهيارات حتمية, في حين كان الآخرون يعملون على تراكم مكاسبهم على حساب أمن واستقرار واقتصاد البلد, الأمر الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه من تخبّط وعجز وتقهقر اقتصادي.
حملات الاستفراد تؤكد فداحة الخلل الحاصل في المعادلة الوطنية, وفي أوضاع الطائفة السنيّة، ولكنها لن تجدي نفعاً ولن تحقق أهدافها, لأن أصحاب الشأن يتذكرون دائماً المثل الأندلسي المعروف: أُكِل الخروف الأبيض عندما أُكِل الخروف الأسود!