وصلنا إلى وقت بتنا نشعر فيه أنّ كلّ ما يتمّ تقديمه على السوشل ميديا مبتذل ومنقول ومعلوك ومستهلك، لدرجة أنّ كل منشور جديد قادر أن يصيبنا بالغثيان من النقرة الأولى. وأغلب ما يتم نشره عبارة عن صفّ حكي وتطبيل وتزمير ونفخ بسياسي أو فنان. وتكاد الساحة تخلو من أي شيء يستفزّنا، يحرّكنا، يدغدغنا، يسرقنا من واقعنا ويأخذنا إلى مكان جديد فيه القليل من الأمل والكثير من الثورة الخرساء.
ولكنّ الشخص الذي عرف كيف يبدّل مفهوم التلفزيون منذ أكثر من 20 سنة، والذي عرف كيف يبكي المشاهدين ويضحكهم، ويحمّسهم، ويسلّيهم، ويجعلهم ينتظرون إبداعاته من عام إلى عام… إقتحم السوشل ميديا اليوم بفكرة جديدة التهمها الروّاد باهتمامهم، فهل يستطيع المخرج بيتر خوري أن يبدّل في السوشل ميديا المحلّية أيضاً؟
عرفناه في برامج كثيرة، وكنّا ننتظره على سهرة رأس السنة كل عام لنكتشف بالدمع والضحك والحرقة والشوق الأفكار التي كان يقدّمها والأشخاص الذين كان يجمعهم ببعض… لكنّ بيتر خوري لا يجمع اليوم إبناً بأمه أو يتيماً بأقرباء له في المكسيك، بل يجمع الشعب اللبناني الغائب عن الوعي بتاريخه وإرثه وحضارته ورجالاته، من خلال سلسلة «وَينن» التي يعرضها عبر صفحاته الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي.
الفكرة بسيطة وتنفيذها بسيط أكثر ولا يتعدّى طول الفيديو أكثر من 3 دقائق، وهي بأسلوب الحكواتي وبلسان الاستاذ باخوس عسّاف وحضوره أمام الكاميرا. فقد قدّم حتى اليوم 3 مقاطع، يتحدّث في الأول عن قصّة الياس سركيس الذي رفض تمرير معاملة لقريب الرئيس فؤاد شهاب واختار النزاهة على المحسوبية وعَرّض منصبه للخطر، وكيف تمّ استدعاؤه إلى القصر الجمهوري ومقابلة الرئيس شهاب الذي كافأه بأرفع منصب في القصر بسبب مناقبيته.
في الثاني يسرد علينا حكاية مؤثّرة عن المطران أنطون عريضة الذي ذهب ليرهن صليبه عند تاجر القمح محمد بيك غندور في طرابلس لإطعام أبناء رعيته في المجاعة، وكيف رفض التاجر رهن الصليب وأرسل بَدل الشحنة شحنتين من القمح احتراماً لمبادئ المطران. وفي الفيديو الأخير يبدأ باخوس عسّاف الحديث عن أيام الرئيس كميل شمعون، قبل أن تنقطع الكهرباء وتتوقّف الحكاية، ويسمح لنا المخرج بتخايل كيف كانت أيام الرئيس شمعون.
هناك مخرجون يحرّكون كاميرات وبروجيكتورات وعدسات، ومخرجون يحرّكون مشاعر وأفكار ودموع وقلوب، وبيتر خوري هو من بين هؤلاء المخرجين الذين يقدّمون الفنّ والحبّ في طبق واحد.
اللبناني ليس بحاجة إلى إنتاجات هوليوودية ليرى فداحة واقعه، ولا يحتاج ربما إلّا إلى دفشة أو نَكزة تنعشه… السلسلة ما زالت في أولها ولا بد أنّ هناك المزيد الذي ننتظره وينتظرنا، والخوري لا يفضح فيها السياسيين والفاسدين في الحكم فقط، وإنما أكثر ما يعرّيه هم المبدعون والمخرجون والكتّاب والفنانون الغائبون تماماً عن المشهد الوطني العام، ولا يخترفون سكون الفساد بقنبلة إبداعية جديدة تفتح ذهن الجموع على التجاوزات، ولا يرشدون القابعين تحت نير المصاريف أو يثقفونهم بأعمال فاضحة.
الشاشات اشتاقت إلى بيتر خوري وإلى الأفكار التي اجتهد في تقديمها، ولكن نحن اشتقنا أكثر إلى من يذكّرنا بمعدننا وطبيعتنا وإرثنا وتاريخنا وجذورنا… إشتقنا إلى من يذكّرنا بأنفسنا وبالوسادة التي يمكننا أن نحلم عليها بوطن أو بمجتمع أو حاضر يكون ماضياً مشرّفاً لمستقبل ليس ببعيد.
يبدأ بيتر خوري كل فيديو يقدّمه بصورة بيت لبناني قديم تتهدّم جدرانه، ويذكّرنا مع كلّ قصّة أن حتى الحجارة في لبنان تمتلك الكثير من القصص، ويطمئننا إلى أنّ الجعبة مليئة بالروايات وما علينا سوى أن نغرف منها… كثيرون سيكونون في انتظار الحلقات الجديدة من سلسلة «وينن»، وكلّنا نراهن على بيتر خوري وأمثاله لانتشال أفكارنا من خلف متاريس حرب وهمية واستثمارها في واقع تحتاج جدرانه إلى حجارتنا، كلّ من مقلع اختصاصه.