يحمل التفجير الإرهابي في الكنيسة البطرسية رسائل ودلالات كثيرة، أهمها أن معركة مصر مع الإرهاب لن تنتهي قريباً، فالمواجهة الأساسية تدور في شمال سيناء منذ أكثر من عامين، ويبدو أن حصار الإرهابيين هناك وقرب القضاء عليهم يدفعهم للتسلل إلى القاهرة، وتوجيه ضربات يائسة لكنها موجعة ومزعجة للأمن والاستقرار والاقتصاد والأهم لنسيج الوحدة الوطنية.
بهذا المعنى فإن الإرهاب وهو في أضعف مراحله يحاول نقل المعركة إلى القاهرة والدلتا، ففي يوم الجمعة الماضي ضرب الإرهاب كميناً أمنياً ثابتاً بجوار أحد المساجد في حي الهرم غرب القاهرة، واستشهد ضابطان وأربعة جنود، وفي اليوم نفسه ألقيت عبوة ناسفة على دورية للأمن في كفر الشيخ شمال دلتا النيل، أدت إلى وفاة مواطن وإصابة اثنين من رجال الشرطة. ويوم الأحد الماضي جاءت الضربة الأقوى، وغير المتوقعة، حيث فجَّر إرهابي نفسه في إحدى الكنائس التاريخية، الملاصقة للكاتدرائية المرقسية في شرق القاهرة؛ المقر الرسمي للكنيسة المصرية. وقع الانفجار في يوم عطلة بمناسبة المولد النبوي الشريف، تصادف أن كان يوم الأحد حيث يذهب المسيحيون بكثرة للصلاة، فهم في فترة صيام، لذلك كان الانفجار موجعاً وأسقط 25 شهيداً و53 مصاباً غالبيتهم من النساء والأطفال. عدد الضحايا، وأماكن الضربات الإرهابية، وأساليب التنفيذ، والتوقيتات، كلها رموز ورسائل يوجهها الإرهاب للمصريين – مسلمين ومسيحيين بلا تمييز – قبل أن يوجهها لجمهورية السيسي التي تخوض حرباً أمنية وسياسية وإعلامية لاهوادة فيها ضد الإرهاب الذي يمارسه عديد من التنظيمات التكفيرية الظلامية، علاوة على بعض أجنحة الإخوان المسلمين، حيث أثبتت التحقيقات تورط بعض عناصر الإخوان في عمليات إرهابية. ويمكن القول إن عنف حرب الدولة على الإرهاب وجديته قد ولدا نقيضهما، أي مزيداً من العنف والإرهاب، اللذين استهدفا ولأول مرة منذ عزل محمد مرسي في 3 تموز (يوليو) 2013 كنيسة في قلب القاهرة وبجوار الكاتدرائية، كما استخدم للمرة الأولى أسلوب العمل الانتحاري.
قصد الإرهاب أن تتلاحق ضرباته في غضون ثلاثة أيام وبحيث تبدو وكأنها موجة قد تتلوها موجات بهدف التشكيك في قدرة الدولة على حفظ الأمن والاستقرار، وبالتالي قدرتها على جذب الاستثمار الخارجي الذي تراهن عليه خريطة الإصلاح الاقتصادي بعد الاتفاق مع صندوق النقد. أيضاً قصد الإرهاب إفساد موسم السياحة الذي بدأ في استعادة بعض عافيته، وبالتالي الإضرار بالاقتصاد. وقصد الإرهاب أخيراً الانتقام من الكنيسة لموقفها الداعم لتدخل الجيش وإنهاء حكم الإخوان ودعمها المستمر للرئيس السيسي. الدولة قابلت رسائل ورموز الإرهاب برسائل أكثر فاعلية وإجراءات عملية لا تخلو من دلالات مهمة، فقد انتفضت أجهزة الدولة وأُعلن الحداد العام واعتبر القتلى شهداء للواجب، وشُيّعت الجثامين في جنازات عسكرية مع حضور رسمي وشعبي واسع تصدره الرئيس السيسي، الذي قدم للشعب المصري وليس للمسيحيين فقط التعازي والمواساة، لأن الإرهاب يستهدف المصريين من دون تمييز، وفي الوقت نفسه كشف السيسي عن اسم منفذ العملية الانتحارية والخلية الإرهابية التي ينتمي إليها، مؤكداً إلقاء القبض على أفرادها، وأعلنت الداخلية في بيان رسمي التفاصيل.
الرسائل القوية المتبادلة بين الدولة والإرهاب لم تمنع من إثارة بعض الجدل والنقاش حول عدد من القضايا المهمة التي يجب على الدولة والمجتمع الاهتمام بها حتى يمكن الفوز في المعركة ضد الإرهاب، والحفاظ على الوحدة الوطنية وعلى الدولة الوطنية المصرية: – أولاً: محاولات التوظيف السياسي وربما الطائفي لتفجير الكنيسة، حيث سعى بعض النشطاء إلى فتح ملف المشكلات التي يعاني منها المسيحيون وبعض مظاهر التمييز التي تمارس ضدهم في المجتمع نتيجة انتشار فكر الإخوان وبعض الجماعات السلفية المتشددة، وأعتقد بأنها مشكلات حقيقية نشأت بسبب عدم تجديد الخطاب الديني وانتشار الفقر والأمية وتراجع مستويات التعليم وغياب قيم التسامح والتعايش المشترك، لكن قناعتي أن توقيت طرح هذه المشكلات غير مناسب لأنه يعزز من رسالة الإرهابيين ويحقق هدفهم في ضرب الوحدة الوطنية، وعلى كل الأطراف أن تعي أمرين الأول، أن ضربات الإرهاب لا تميز بين مسلم ومسيحي، وأن الآثار الأمنية والاقتصادية المترتبة عن نجاح الإرهاب تلحق الضرر بعنصريّ الشعب المصري. الأمر الثاني إذا كانت هناك مشكلات للمسيحيين في ظل جمهورية السيسي فإنها لا يمكن أن تقارن بأوضاعهم في ظل حكم الإخوان لو قدر له الاستمرار، حيث كانوا سيعاملون كأهل ذمة وليسوا كمواطنين، والتشكيك في سلامة الإجراءات الأمنية، حيث رصدت تقارير صحافية عدم وجود بوابات أمنية عند مداخل الكنيسة البطرسية، ما دفع البعض لتوجيه اتهامات للدولة بالتقصير في حماية المسيحيين، ليس فقط في حماية الكنيسة البطرسية، وإنما في حماية كثير من الكنائس في قرى صعيد مصر، حيث تعرضت لاعتداءات بعض المتطرفين، ويضيف هؤلاء النشطاء إن قانون بناء الكنائس لم يُفعّل حتى اليوم، كما أن القضاء لم يصدر أحكاماً بحق المتهمين بالاعتداء على كنيسة القديسين نهاية 2010 وغيرها من حوادث الاعتداء على كنائس بعد ثورتي 25 يناير، و30 يونيو. والحقيقة أن كثيراً من هذه الوقائع صحيحة، ويمكن أن أضيف إليها الشكوى الدائمة والمتكررة من عدم تنفيذ القانون في الصدامات التي تقع بين مسلمين وأقباط في بعض قرى صعيد مصر، والاعتماد على المجالس العرفية لتسوية أي صدامات أو فتن طائفية. لكن المؤكد أن الدولة لا تتعمد عدم تطبيق القانون في حوادث التوتر الطائفي لأن إجراءات التقاضي لم تحدد المتهمين في أغلب الحوادث، أما مسألة التقصير الأمني فهي قضية شائكة لأن العمليات الانتحارية قادرة على اختراق أي إجراءات أمنية وقد حدث ذلك في عواصم دول متقدمة، وإذا كانت هناك سلبيات في تأمين بعض المواقع أو قصور في تنفيذ الخطط الأمنية فإنها أمور غير مقصودة، وأخطاء دفع ثمنها شهداء من رجال الشرطة، ومن المؤكد أن هناك دروساً مستفادة وتطويراً مستمراً في الخطط الأمنية، وأداء رجال الشرطة. ثالثاً: منذ الإطاحة بحكم الإخوان يمكن تقسيم الأعمال الإرهابية إلى ثلاثة أنواع، الأول: السيطرة على شمال سيناء ومحاولة إعلان جمهورية إسلامية، الثاني: إفشال الدولة وعدم تمكينها من تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين مثل الأمن والكهرباء والتعليم، لذلك شهد عاما 2013 و2014 عمليات تفجير أبراج الكهرباء والشغب في الجامعات. أما النوع الثالث فهو الانتقام من رجال الشرطة والجيش ورجال القضاء وبعض رجال الدين والشخصيات العامة. وأتوقع أن مهاجمة الكنائس والمسيحيين ستشكل النوع الرابع والجديد، الذي ستمارسه الجماعات الإرهابية في محاولة لإحراج الدولة والانتقام من الكنيسة، ما يعني أن الجماعات الإرهابية توسع مجال حركتها وتضاعف من أهدافها المفترضة وهو ما يلقي على الدولة والأجهزة الأمنية أعباء أكبر، ويتطلب إجراءات أمنية غير تقليدية.
رابعاً: القضية الأخيرة تتعلق بكيفية مواجهة الإرهاب، حيث ارتفع عديد من الأصوات في البرلمان وفي الإعلام يطالب بتسريع إجراءات التقاضي وتحويل بعضها إلى القضاء العسكري ولوّح برلمانيون بإمكانية تعديل الدستور وإصدار قوانين أكثر تشدداً في مواجهة الإرهاب، وأعتقد بأن الحل القانوني أو الأمني لا يكفيان لدحر الإرهاب، وإنما لابد من تنفيذ إستراتيجية شاملة تمزج ما بين الحلول الأمنية والقانونية والسياسية ومحاربة الفقر والأمية والأفكار المتطرفة، فالانتصار على الجماعات الإرهابية المسلحة في سيناء أو بعض الخلايا داخل مصر لا يعني الانتصار النهائي، لأن الجذور الفكرية والمسببات الاجتماعية – الاقتصادية ستظل قائمة وستعيد إنتاج أفكار وجماعات متطرفة، لذلك من الضروري توسيع المجال العام واحترام الحريات وحقوق الإنسان ومحاربة الفكر المتطرف الذي ينتج هذه الجماعات، والأهم إصلاح البيئة الاجتماعية والتعليمية الحاضنة لهذه الأفكار، ما يتطلب خططاً طموحة للتنمية والحد من معدلات الفقر والبطالة والنهوض بالتعليم بخاصة التعليم الديني، والإشكالية أن الأوضاع الاقتصادية الحالية والخطط المطروحة غير قادرة على الوفاء بهذه المتطلبات على الأقل في المدى القصير.