أعادت حادثة اندلاع حريق كبير في منطقة ببنين-العبدة في عكار تسليط الضوء على مسألة “تهريب المواد المدعومة إلى سوريا”… وطُرحت عدة أسئلة: من أضرم النيران في المواد النفطية المتسرّبة، بعد إحداث ثقوب في خط “كركوك ـ طرابلس ” المنسي منذ عقود؟ ومن أين ضُخ النفط؟ وبأي اتجاه؟ ولمصلحة من؟ ومن قام بالتخريب ومن أشعل النار؟
ثمة جهة نفذت عملية التخريب التي طاولت الأنبوب “غير المهترئ حتماً” والذي يبلغ قطره بحدود الـ16إنشاً والممتد على عمق أكثر من مترين تحت الأرض. هذا الأنبوب يحاذي أقنية صرف مياه شتوية تضخ في “ساقية” ومن الساقية إلى البحر الأبيض “المتوسّخ”، هذه الجهة أوصلت بفعلتها رسالة “تحذير” واضحة “للمدعومين” الذين واظبوا على استخدام هذه الأنابيب لأعوام عدة بحسب السكان المجاورين. وبدلاً من أن يكشف المعنيون حقيقة ما حصل وخلفياته لجأوا إلى لفلفة الموضوع وإطلاق تبريرات غير مقنعة.
رواية أهل عكار
بحسب رواياتٍ متعددة استقتها “نداء الوطن” من سكانٍ محليين، بدا أن هناك عملية تخريبية بطلها مجهول. إذ يروي أحدهم ما حدث بالتفصيل “في تمام الساعة الخامسة والنصف من فجر السبت 14 تشرين الثاني صحونا على صوت عربة “بيك آب” تنزلق بشدة نحو سياج منزلنا، وخرجنا لإنقاذ السائق ومن معه من أطفال وتفاجأنا بوجود كمية كبيرة من المشتقات النفطية على الإسفلت، وعليه أوقفنا السير ونبهنا القادمين واتصلنا بالبلدية ثم حضر الجيش للمساعدة، وفي لحظات اندلع حريق كبير من النفط الذي كان يطفو فوق مياه ساقية مجاورة وارتفعت ألسنة النار بعلو 6 أمتار، على مسافة من فتحة الأنبوب المار “بنص الطريق”… ومن ثم وصل الدفاع المدني واستقدم عناصره جرافة لتنظيف المكان وتوسعته حول الأنبوب، كما جاؤوا بصهريج حاول سحب وشفط المواد النفطية من البؤرة المفتوحة حول الأنبوب ومن كل المكان”.
وفي رواية مريبة قال آخر: “أبناء المنطقة يعرفون أن هناك صهاريج تأتي وتسحب أو تضخ في الأنبوب بشكل واضح وبلا خوف و”مدعومين”، وعلى الأرجح أنهم اختلفوا في ما بينهم وعليه تم التخريب في الليل، وحصل التسرب النفطي ودام لساعات ومن ثم عمل نفس الشخص على حرق ما تسرب في الجهة البعيدة من الأنبوب أي من جهة الساقية للفت الأنظار. والغريب في الأمر أن المواد التي تسربت كانت سريعة الإشتعال بخلاف النفط الخام.
أين التحقيق؟
عرض عضو كتلة “الجمهورية القوية” وهبي قاطيشا معطيات خاصة لـ”نداء الوطن” يجهز فيها ملفاً، سيطالب على أساسه المعنيين بفتح تحقيق موسع يتخطى تصريحاتهم الإعلامية التي “لم تُقنع أحداً”، بحسب قوله، مستعيداً محطات من تاريخ “الخط المستهدف” تمّ تشييد البنية التحتية الأصلية لخط الأنابيب في خلال عشرينات القرن الماضي. انشأت الخط “شركة نفط العراق المحدودة” بعيد اكتشافها حقل كركوك عام 1927 حيث نقل أنبوبان قياس 12 بوصة النفط من كركوك إلى حيفا في فلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطاني، إلى طرابلس في لبنان الواقعة تحت الانتداب الفرنسي. وبعدها تم استكمال خط طرابلس بخط أنابيب قطره 30 بوصة في خمسينات القرن الماضي، والذي يمكن أن ينقل ما يقرب من 400 ألف برميل يومياً. واستمر الخط بنقله للنفط حتى بعد تأميمه عام 1972، لكن حافظ الأسد أغلق خط الأنابيب الواصل بين كركوك وطرابلس لدعم طهران ضد بغداد إبان الحرب العراقية الإيرانية في العام 1984. وعند معاينة الأنبوب الذي سال منه النفط، تبيّن أنه مطلي بالأسود وجديد جداً ولا تشوبه شائبة!”.
سالك ذهاباً وإياباً
ويتابع قاطيشا: “مبدئياً، وبحسب الخرائط، يمتد الخط النفطي الثلاثي من مدينة كركوك العراقية إلى طرابلس اللبنانية بمسار يدخل سوريا ثم ينفصل إلى خطين عند الحدود، الأول يصبّ في بانياس على الساحل السوري حيث توجد مصفاة لتكرير النفط الخام، فيما يصبّ الثاني في طرابلس حيث محطة IPC. مع الإشارة أنه يُمكن للخط أن يُستخدم بالعكس من طرابلس إلى الحدود السورية الشرقية، ثم يلتفّ نحو بانياس وذلك بتثبيت محطتي ضغط فقط لا تكلفان الكثير، بخاصة بعد أن أبرمت “روس نفط” المملوكة من الدولة الروسية اتفاقية مع الحكومة اللبنانية، ممثلة بوزير الطاقة سيزار أبي خليل آنذاك أواخر كانون الثاني 2019، لـ”استئجار وتشغيل وتوسيع منشأة التخزين في طرابلس للسنوات العشرين المقبلة”. وقد حجبت الوزارة التفاصيل الرئيسية حول الصفقة، مثل قيمتها وهوية مقدمي العطاءات الآخرين. وهو ما يثير أسئلة كبيرة! بالإضافة إلى أنه وفي الآونة الأخيرة، انخرط مسؤولون من لبنان وسوريا والعراق في محادثات لإعادة تشغيل خط الأنابيب نفسه المعطّل”.
ومع وجود الفريق الروسي المسيطر في سوريا في هذه المعادلة أشار قاطيشا ايضاً إلى أن موسكو قد حصلت بالفعل على موطئ قدم في قطاع النفط والغاز اللبناني من خلال شركة الغاز العملاقة نوفاتيك، التي وقعت اتفاقاً لاستكشاف وإنتاج الهيدروكربونات البحرية كجزء من كونسورتيوم يضم توتال الفرنسية وإيني الإيطالية. كما تنافست “روس نفط” في مناقصة عامة لتشغيل وحدة تخزين عائمة وإعادة تحويل الغاز المسيّل إلى غاز جنباً إلى جنب مع BW النرويجية، وفيتول السويسرية، وبوتيك اللبنانية، والمباني السعودية.
والسؤال الأهم اليوم، “من أين أتى النفط، فخط كركوك-سوريا- لبنان مقفل. ومنهم من برر أنه يتم الضخ في الأنبوب كي يبقى صالحاً للإستخدام ولا يهترئ، فهل يا ترى يمكن لهذا النفط المضخوخ فرضاً أن يمر في سوريا من دون أن يُسحب ومن هي الجهة أو الشركة التي تضخ نفطاً ستخسر قيمته؟ لا يبقى إلا احتمال تشغيله بين سوريا ولبنان، فإما هناك من يضخ في سوريا نحو طرابلس ويسحب في لبنان ويتم بيعه داخلياً أو تصديره على أنه لبناني المنشأ، وهذا يكون تحت مرأى وعيون الدولة اللبنانية، أو العكس يتم تهريب المواد النفطية المدعومة من لبنان إلى سوريا ليس فقط عبر المسالك غير الشرعية بل عبر الأنابيب هذه ما يخلق اقتصاداً موازياً يستفيد منه فريق سياسي مسؤول عن هذا القطاع”.
إحتمال سفن التهريب
لفت رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” النائب السابق وليد جنبلاط إلى فرضية أخرى، تعدت التهريب عبر الشركات المستوردة للنفط إلى لبنان، لتصل إلى “سفن تهريب غير شرعية” إذ تساءل في تغريدة، وفيها: “هل صحيح أن انفجار الأنبوب في العبدة مرده أن البعض كان يضخ النفط من مصفاة الشمال إلى سوريا؟ هل انتقلنا إلى هذا الحجم من التهريب، وهل إن تجار النفط يأتون بسفن غير شرعية لتهريب النفط المدعوم؟”.
وهنا، نعود بالذاكرة إلى سفينة “جاكوار أس” الملقبة بالسفينة “الشبح غير معروفة الهوية” والتي تبيّن أنها تحمل 4 ملايين ليتر من البنزين بوزن قدره 2987 طناً، ولم تأت بناء على طلب أي جهة رسمية لبنانية التي وصلت الى الزهراني في 25 ايلول الماضي ويُظهر تحرّكها أنها أبحرت باتجاه طرابلس 25 ميلًا، ثم عادت الى محيط الزهراني في 27 أيلول ولا تزال حتى الساعة، أي بعد 55 يوماً راسية ومحجوزة في المياه اللبنانية في الزهراني مع كافة مستنداتها، لحين صدور القرار من النيابة العامة الذي يبدو أنه لم يصدر حتى الآن، لأنها ما زالت في لبنان، بحسب ما يُظهره بشكل واضح موقع رادار بحري لتتبع السفن.
واليوم، وبعد إلقاء الضوء على أنبوب النفط “الشغال” في طرابلس، وتعليق النائب جنبلاط، يجد البعض تبريراً واضحاً لما أظهرته التحقيقات السابقة عن إبحار السفينة المُحتجزة إلى طرابلس قبل أن تعود إلى الزهراني، بخاصة أن إدارة الجمارك ولدى التدقيق في المانيفست وبوليصة الشحن والعلم والخبر المقدّم من الوكيل البحري تبيّن عدم وجود شركة مستوردة لبنانية للبضاعة الموجودة على متنها، كما أن الشركات المستوردة للمحروقات قد تبرّأت منها وكذلك منشآت النفط، بل هي لصالح شركة تحمل إسم “شركة النعم السورية” ومركزها حرستا في دمشق، وقد انطلقت من اسطنبول في 15 أيلول الى كريت في اليونان لتتوجه بعدها الى لبنان، وسط معلومات تشير الى أن تعبئتها تمّت في منصة يونانية. أما الشكوك الإعلامية التي تابعت ملف السفينة أشارت إلى احتمال أن يكون هناك تواصل ما بين نافذين في لبنان وآخرين من الجانب السوري، وتعاون واضح لإدخال شحنة البنزين عبر الأراضي اللبنانية ليتم تهريبها، أو ربما “ضخها في الأنبوب” الى سوريا، في إطار خطوة التفافية على قانون “قيصر” وقد حدث شيء ما غير متوقع، وتم فضح أمر السفينة التي دخلت سابقاً إلى بيروت في 12 حزيران 2020 لمدة يومين وقبلها مرات عديدة إلى طرابلس!
تضارب المعطيات
حادثة الحريق دفعت بوزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الاعمال ريمون غجر أن يزور منطقة العبدة ليتفقد “أنابيب النفط” وفي حضور الامين العام للهيئة العليا للاغاثة اللواء محمد خير، الذي وعد أنه “سيقوم فريق المهندسين والتقنيين في منشآت نفط طرابلس باعداد تقرير شامل وكامل عن مدى التسرب وكميته والمتضررين وسبل المعالجة وحجم الاضرار التي تسبب بها، تمهيداً لرفعه الى مجلس الوزراء لاتخاذ الاجراءات المناسبة”. إلا أنه وبعد خمسة أيام على الزيارة لم يُرفع أي تقرير ولم يُحدد حتى ما هي المادة التي تسربت، هل هي مازوت أم بنزين أم نفط غير مكرر أم ماذا بالتحديد؟
على المقلب الآخر، قالت المديرية العامة للنفط في وزارة الطاقة، التي لم تقدم شرحاً وافياً عن مسببات العطل: “إنها المرة الأولى التي يحصل خطأ تقني على هذا الخط”، في حين ظهرت هزالة التبرير في ما لفتت إليه المديرة العامة لمنشآت النفط أورور فغالي، أنه “لا يمكن من الناحية التقنية ضخ المواد النفطية إلى سوريا عبر أنابيب كركوك وطرابلس المتوقفة منذ 40 عاماً”. وأن مدير عام الأمن العام عباس إبراهيم قد تواصل مع الجانب السوري “للإستيضاح” بعد الحادثة، وقد تبين معه “وقوع خطأ تقني من جهتهم بحيث إنه وخلال إجراء عملية ضخ للنفط عبر أنبوب نفطي من سوريا إلى جهة أخرى (وبحسب الخريطة لا جهة أخرى إلا العراق) أدى الضغط إلى تسربّه إلى الجهة اللبنانية وحدث ما حدث، وقد تمت السيطرة عليه خلال وقت قصير”.
أما المسؤول عن الملف الاقتصادي في الحزب “التقدمي الإشتراكي” وعضو مجلس القيادة محمد بصبوص وفي حديث لـ”نداء الوطن” استبعد تبرير فغالي، إذ أنه برأيه “لا يمكن أن يكون الخطأ ناتجاً عن ضخ النفط من سوريا بأي اتجاه إذ إن سوريا تعاني أساساً من أزمة في تأمين هذه المواد ومن تداعيات قانون “قيصر” والحصار الإقتصادي عليها”، وهو أمر متوافق عليه على الصعيد الوزاري لبنانياً، إذ إنه وفي منتصف شهر تموز المنصرم “اعترف وزير الطاقة بكميات كبيرة من المازوت الذي “يتبخر” بالتخزين والتهريب، وهو تصريح يطلقه مسؤول في حكومة تعترف بعجزها اليومي عن القيام بأدنى واجباتها في حماية الوطن وماليته والمواطنين وأمنهم الاجتماعي من آفة التهريب. وهنا تجدر الإشارة الى ان كميات المازوت المستورد الى لبنان ارتفع من حوالى 1100 الف طن في العام 2011 الى 2500 الف طن في العام 2019 أي بزيادة 130% في خلال ستة أعوام! وعليه يمكن التأكيد ان ما يقارب نصف الكمية المستوردة (1250 الف طن) يتم تهريبها سنوياً الى سوريا أي ان الكمية التي يتم تهريبها سنوياً تبلغ 73 مليوناً و 500 ألف صفيحة، ما يعني ان مصرف لبنان يخسر ما يقارب 418 مليون دولار سنوياً من العملة الصعبة المدعومة بسبب التهريب وحده، وهي مؤشرات لا تدل إلا على حجم التهريب الكبير الذي يمكن جداً أن يكون حصل ليس فقط عبر البر بل عبر أي وسيلة متاحة!”.
ويتابع بصبوص: “والأمر لا يتوقف عند المازوت، فالأرقام صادمة أيضاً في موضوع البنزين، فبين عامي 1996 و2011 تراوح الاستيراد السنوي للبنزين ما بين مليون و250 ألف طن ومليون و600 ألف طن حسب إحصاء UN Statistics Division.أما بعد اندلاع الثورة السورية وازدياد عمليات التهريب فقد ازدادت كمية الاستيراد بشكل ملفت لتزيد عن 2 مليون و 120 ألف طن بين أعوام 2016 و2019، أي بزيادة 520 مليون طن عن اعلى كمية استيراد سجلت في العام 2011، ما يوازي زيادة بنسبة 33% من الكميات المستوردة وهذا ما لا يعقل ان يتطلبه السوق اللبناني منفرداً خلال 5 سنوات. وفي شهر أيلول /2020 بلغ سعر صفيحة البنزين في الداخل السوري ما يوازي 125 ألف ليرة لبنانية أي بزيادة 406% عن سعر صفيحة البنزين في لبنان. ترجح بعض المصادر ان كمية التهريب اليومية للبنزين من لبنان الى سوريا تتراوح بين مليون ومليون و500 ألف ليتر يومياً، ما يوازي 460 مليون ليتر سنوياً (في حال اعتماد 1،25 مليون ليتر وسطياً باليوم)، أي ما يوازي 23 مليون صفيحة بنزين ما يعني ان مصرف لبنان يخسر سنوياً ما لا يقل عن 140 مليون دولار تغطية للفرق بين سعر الصرف الرسمي وسعر سوق الصرف الموازي من جراء تهريب البنزين فقط. وفي العام 2019 تم استيراد ما يقارب 150 مليون صفيحة من مادة البنزين ومن المتوقع ان تبقى تلك الكمية ثابتة في العام 2020. وبلغت كلفة دعم تلك الكمية ما يقارب 900 مليون دولار!”.
كل تلك الأرقام، تدق ناقوس الخطر وتلفت إلى حجم التهريب الضخم الذي يستنزف احتياطي النقد، وبالتالي المطلوب اليوم عدم “طمر” ملف ما حصل في العبدة ولا تصديق التبريرات الواهية، بل التحقيق بكل شفافية في ملف يكاد يكون بأهمية التحقيق في أحداث إنفجار مرفأ بيروت لما فيه من معطيات بالغة الأهمية.
بيئياً ماذا حدث؟
إستغرقت إعادة إصلاح الأعطال التي تسببت بهذا التسرب حوالى الـ40 ساعة من العمل المتواصل بين فرق الدفاع المدني وبحرية الجيش بالتعاون مع متطوعين مدربين من جمعية “حملة الأزرق الكبير”، وقد أشار المسؤول فيها نزيه إدريس لـ”نداء الوطن” إلى أن التلوث قد وصل إلى الأقنية والطرقات والساقية والى البحر عند شاطئ العبدة حتى مرفأ صيد السمك. ويتابع: “عملنا مع الجيش خلال الطقس الممطر وحاصرنا النفط والمياه التي اختلطت بالمادة النفطية وعالجناها وفقاً للطرق العلمية المعتمدة للحد من التلوث”. كما عالج مهندسون وتقنيون مختصون الثقوب التي طرأت على الانبوب الذي حدث منه التسرب وذلك لإيقاف التدفق.