Site icon IMLebanon

النظام الضريبي للبترول: فرصة نادرة لاستعادة صلاحيات المجلس النيابي

مشروع القانون الخاص بالأحكام الضريبية المتعلقة بالأنشطة البترولية، الذي أقره مجلس الوزراء في 8 آذار الجاري، سيكون، في حال موافقة المجلس النيابي عليه، آخر خطوة تشريعية تعطي الضوء الأخضر لاستدراج عروض وتوقيع اتفاقيات استكشاف وإنتاج البترول والغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة.

وفي طليعة الأحكام التي تنص عليها مسودة القانون تحديد ضريبة دخل 20% على أرباح الشركات البترولية العاملة، مقابل ضريبة دخل 15% على الشركات الأخرى، وتحديد آلية تقاسم ما يسمى بترول الربح أو غاز الربح (Profit oil أو Profit gas) بين الدولة والشركات المعنية. والمقصود بالربح المذكور هو الفرق بين إجمالي الدخل، من جهة، وإجمالي النفقات الرأسمالية والتشغيلية، من جهة ثانية.

ومن أبرز ما يلفت الانتباه في مشروع القانون الضريبي الجديد هو أنه، شأنه في ذلك شأن معظم أحكام المراسيم التي تم إقرارها أخيراً على جناح السرعة، يختلف عن المبادئ الأساسية المتعارف عليها والمعمول بها في سائر بلدان العالم، وان هذا الاختلاف يصب بشكل شبه كلي في خانة السلبيات بالنسبة إلى لبنان، سواء من حيث الشروط المالية أو من حيث الشفافية ومشاركة الدولة الفعلية في الأنشطة البترولية وقدرتها على مراقبة هذه الصناعة وتوجيهها. ومن الأمثلة العديدة على ذلك، في ما يخص الدخل المالي أولاً، أن الأتاوة في لبنان لا تتجاوز 4% على الغاز و12.5% على البترول، مقابل معدل شائع لا يقل عن 12.5% في العالم، وضريبة دخل لا تتعدى 20% في مشروع القانون الجديد، مقابل معدل 26% “في البلدان التي تعتمد نظاماً مالياً شبيهاً بلبنان والبلاد المجاورة”، وفق المذكرة التفسيرية الرسمية التي رافقت مسودة القانون الضريبي الجديد، وتحديد سقف بترول الكلفة على مستوى 65%، مقابل معدل لا يتجاوز عادة 50% في شتى أنحاء العالم، وتحديد الحد الأدنى لحصة الدولة من بترول أو غاز الربح بـ 30%، مقابل 40 – 60% في مختلف البلدان المنتجة.

إلا أن المفاجأة الكبرى في مشروع القانون البترولي الجديد، فهي الانحراف الذي يؤدي الى أبرز النتائج سلبية على حصة الدولة من أرباح الشركات العاملة، وعلى قدرتها التفاوضية طوال مدة الإنتاج. هذا الانحراف يكمن بشكل خاص في اعتماد آلية المزايدة لتحديد بعض العناصر التي تتحكم بمستوى السقف الفعلي السنوي لاسترداد الكلفة من قبل الشركات العاملة، من جهة، وتحديد النسب المئوية الفعلية لتقاسم بترول الربح أو غاز الربح بين الدولة والشركات المذكورة، من جهة ثانية. وهذا يعني بتعبير آخر أنه، بدلاً من أن يحدد القانون منذ البداية السقف السنوي ومدة استرداد النفقات الرأسمالية والتشغيلية، وأن يحدد أيضاً منذ البداية نسب تقاسم الربح وتطور هذه النسب وفق تطور الأسعار وربحية المشروع، نرى أن تحديد بعض عناصر هذين العاملين متروك للمزايدة (Bidding) أي للتفاوض مع كل شركة على حدة. وهذا وضع لا مثيل له لأنه مخالف لأبسط المبادئ والقواعد المتبعة في العالم، كما تدل على ذلك مئات اتفاقيات الإنتاج المطبقة في شتى البلدان، من أندونيسيا الى أنغولا، مروراً بالنروج وروسيا وكازاخستان والعراق وقطر وليبيا وإسرائيل، الخ… وسبب ذلك أن أسلوب المزايدة لتحديد أمور جوهرية من نوع استرداد النفقات أو تقاسم الإنتاج والأرباح، يخالف الضرورة البديهية للشفافية التي تحتاج إليها الشركات عند تقديم عروضها على أساس شروط واحدة وواضحة للجميع، كما تحتاج إليها الدولة المعنية لتجنب الرشى والفساد خلال مزايدات جانبية تتم وراء أبواب موصدة.

فلماذا يا ترى ينفرد لبنان بهذا الوضع الشاذ عبر تبني أساليب محاسبية رفضتها وترفضها أكثر من 175 دولة تربطها عقود إنتاج مع شركات بترولية؟ ومن هو “المستشار” الذي نصح بعض المسؤولين عندنا بسلوك طريق المزايدة المحفوفة بالمخاطر، ووضع لهم السيناريوات العجيبة الموجودة في المذكرة التفسيرية، التي رافقت المشروع الضريبي الجديد، والتي تصل الى نتيجة أن من الأفضل الاكتفاء بضريبة دخل لا تتجاوز 20%، لأن رفعها الى 25% مثلاً يؤدي في نهاية المطاف الى تخفيض حصة الدولة من الأرباح؟

أما الحقيقة وراء ذلك فهي أن النماذج المستعملة لإبراز هذه النتيجة هي من نوع السيناريوات التي تحدد مسبقاً النتيجة المرجوة، قبل صف الأرقام والفرضيات المحتملة للوصول حسابياً الى النتيجة المذكورة، بما في ذلك حجم الاستثمارات وتوقيتها ونسبة الحسم المعتمدة، بالنسبة إلى الدولة كما بالنسبة إلى الشركة المعنية، للتوصل الى التدفقات المالية المنتظرة. وهكذا يكفي تعديل واحد أو أكثر من العناصر الخاضعة للمزايدة لتغيير النتائج المتوخاة، أو التوصل الى نتائج معاكسة تماماً. ولم يخطئ من قال إن الأرقام والإحصائيات يمكنها أن تكون إذا لزم الأمر نوعاً من أرقى أنواع التضليل!

ومما يزيد في خطورة أسلوب المزايدة، خارج نطاق ضوابط ثابتة وواضحة محددة في القانون، هو عدم وجود أي وجه ممكن للمقارنة بين القدرة التفاوضية لممثلي شركات بترولية عملاقة، من جهة، وعدد من الموظفين، وخاصة في بلدان ذات تجربة تظل، في أحسن الحالات، محدودة إن لم تكن معدومة تماماً في هذا المجال، وخاصة عندما يتعلق الموضوع بشركات متعددة الجنسية تعرف حتى المعطيات الجيولوجية لمناطق الاستكشاف التي تتفاوض حولها أفضل بكثير مما يعرفه بلد كلبنان، وإن الأرقام التي تعلن عنها هذه الشركات حول نفقاتها ودخلها وأرباحها أو خسائرها مبنية الى حد كبير على ما تحتسبه من أسعار للتبادلات بين فروعها في مختلف أنحاء العالم. وهذا كله يسمح لها بإغراق المسؤولين في البلد المضيف بما يحلو لها من أرقام وجداول وفرضيات وسيناريوات. وهكذا عندما سئل المدير المالي في شركة أكسون الأميركية عن كيفية توزيع أرباح شركته أو خسائرها بين مختلف البلدان التي توجد فيها، وبين شتى مراحل الإنتاج والنقل والتكرير والتسويق، كان جوابه الشهير أن “الموضوع في غاية البساطة. إن هذا التوزيع الذي يربكك يتم هنا في مكتبي، وفق ما أراه مناسباً لشركتي”!

هذه الثغَر والانحرافات في أحكام النظام الضريبي والمالي المقترح في لبنان، تضاف الى مثيلاتها في الأحكام التنظيمية والتشريعية التي نصت عليها المراسيم التي تم إقرارها في 4 كانون الثاني الماضي. ومن الأصح القول إنها تضاف إليها وتشكل امتداداً لها في بعض الحالات، وخاصة في ما يتعلق بتغييب الدولة كلياً عن الأنشطة البترولية، وعجزها عن معرفة واردات الشركات العاملة عن كثب ومراقبتها ونفقاتها، بعدما قرر واضعو المرسوم الرقم 43 الخاص بنموذج اتفاقية الاستكشاف والإنتاج عدم مشاركة الدولة في الأنشطة البترولية “في دورة التراخيص الأولى”، وتحويلها الى مجرد متفرج لا يحق له سوى طلب تعيين “مراقب” (كذا) في لجان إدارة الشركات العاملة.

وغني عن القول إن هذا الشكل المذهل لدور الدولة المحوري في استثمار ثروتها الموعودة، وما يرافق ذلك من تلكؤ وتسويف في إنشاء شركة نفط وطنية، ليس ما هو مطلوب لتدريب الكوادر اللبنانية وتحويل لبنان الى بلد منتج فعلي للبترول والغاز، وليس مجرد بلد فيه شركات أجنبية تنتج البترول والغاز، كما كان الوضع في دول الخليج العربي وغيرها من البلدان المستعمرة، قبل نصف قرن. وإن كان من البديهي أنه لا بد من اجتذاب رساميل أجنبية بشروط مقبولة ومعقولة، فالحقيقة أيضاً أننا أصبحنا في القرن الواحد والعشرين، وأنه لا يوجد أي مبرر لممارسات لم يعد يقبل بها أي بلد آخر.

وطالما أن أعضاء المجلس النيابي مدعوون الآن للنظر في مسودة القانون الضريبي الخاص بالأنشطة البترولية، ولاستعادة مسؤوليات وصلاحيات تشريعية طالما سلبت منهم، فلا شك أن أكبر خدمة يمكنهم تقديمها للشعب اللبناني هي طلب حضور المسؤولين عن هذا القطاع ومستشاريهم كي يتفضلوا ويجيبوا عن عدد من الأسئلة الملحة، أهمها:

– لماذا حرم المجلس النيابي من ممارسة صلاحياته، أو حتى الاطلاع على مسودة المراسيم التي تتضمن كل تفاصيل “المنظومة التشريعية”، حسب تعبير بعض المسؤولين، وخاصة أن هذه المراسيم تناقض المبادئ الجوهرية التي نص عليها القانون البترولي 132/2010، بما في ذلك نظام تقاسم الإنتاج، ومشاركة الدولة في الأنشطة البترولية، عبر شركة نفط وطنية؟

– ما هي الغاية من تجاهل نظام تقاسم الإنتاج الذي ينص عليه القانون البترولي، والاستعاضة عنه بمفهوم تقاسم الأرباح الذي ينطوي تلقائياً على حرمان الدولة من حقوق الملكية على كل البترول أو الغاز المكتشف، ويفتح الباب لشركات خاصة وهمية لا وجود لها إلا على الورق، كما لشركات مارقة تم تأهيلها مسبقاً، كي تحل محل الدولة وتضع يدها على الثروة الموعودة؟ وهل حصل مثل هذه التصرفات في أي بلد آخر على وجه الكرة الأرضية؟

– من هم المستشارون المجهولو الهوية الذين قاموا أو نصحوا بصياغة مراسيم أو أحكام قانون ضريبي لا مثيل لها في البلدان الأخرى؟

– وطالما أن البعض يتغنى بأن ما حصل ويحصل في لبنان مستوحى من “النموذج النروجي”، فما هي يا ترى أوجه الشبه، ولو من البعيد البعيد، بيننا وبين النروج، سواء من حيث الشفافية، أو انفراد الدولة بملكية الموارد النفطية، أو تأسيس شركة ستاتويل غداة تبني “الوصايا البترولية العشر” عام 1971، أو عدم منح حقوق استكشاف وإنتاج لشركات صورية تم تأسيسها على عجل في هونغ كونغ أو غيرها؟

وألف شكر سلفاً لكل نوابنا الكرام على طرح هذه الأسئلة، وإبلاغنا الأجوبة، التي ستساعد لا محالة على توضيح ما تم في الخفاء، قبل توقيع اتفاقيات تلزمنا لمدة لا تقل عن أربعة عقود، وعلى تجنيب اللبنانيين تداعيات “سياسة” هي أبعد ما يكون عن آمالهم وعما يحق لهم وللأجيال القادمة.