زرع أسنان لكلب أعاد إليه الضحكة… والعضّة
منذ سنتين وجارنا “أبو اسحَق” يمضغ طعامه “على النيرة”، لم يتبق أضراس في فمه ليمضغ بها الطعام وصارت ابتسامته مجرد ثغرات داكنة لا تشبه قطعاً ثغرات الأمل. منذ سنتين وهو يحلم بان يزرع أضراساً مكان تلك التي فقدها لكن الدولار طيّر حلمه وابتسامته وشهيته وترك فمه عارياً يستجدي ضرساً لا يستطيع الحصول عليه. لم يكن جارنا محظوظاً مثل الكلب “ألفا” الذي تضافرت جهود الطب البيطري وطب الأسنان لزراعة أسنان أمامية له في جراحة هي الأولى من نوعها في لبنان.
أن تقتني كلباً او هراً أو أي حيوان اليف فهذا يعني أن تؤمن له عيشاً كريماً وتزوده بكل مستلزمات الراحة والرفاهية وأن توازيه بنفسك وما يصيرعليك يصيرعليه. وفي زمن الغلاء الفاحش الذي يعيشه لبنان فهذا يعني أن تتكبد عبئاً مالياً يضاف الى أعبائك الشخصية التي بالكاد تستطيع توفيرها، وان تضع نفسك في مأزق الخيار بين متطلباتك ومتطلبات حيوانك… خيار قد لا يكون مطروحاً بالنسبة للبعض لكنه يبدو صعباً جداً بالنسبة لمن يجهدون في توفير لقمة العيش الكريم لهم ولعائلاتهم قبل حيواناتهم.
خبر زراعة الأسنان للكلب “ألفا” أثار فضولنا وفتح الباب على تساؤلات كثيرة قد يختصرها عنوان واحد: كيف صارت عيشة الكلاب في لبنان في زمن الغلاء؟
د. لوران معوض الطبيب البيطري الذي أشرف على إجراء عملية زراعة الأسنان للكلب “ألفا” بالتعاون مع ثلاثة اطباء أسنان مختصين يبدو فخوراً جداً بهذا الإنجاز اللبناني في زمن عزت فيه الإنجازات. فالعملية ليست سهلة ولم يتم إجراؤها سابقاً في لبنان لا بل هي نادرة حتى في العالم، لكن صاحب الكلب أصرّ على المضي بها حتى النهاية. فالكلب ليس عادياً بل هو كلب بوليسي مدرب يعمل مع القوى الأمنية ويقوم بالمداهمات ولا يمكنه حتماً أن يداهم بلا أسنان! فالعملية ليست إذاً من منطلق تجميلي بحت بل تتضمن ناحية بوليسية عملية لا بد من تقديرها.
د. معوض ومن ضمن اختصاصه كطبيب بيطري معتاد على التعامل مع كل ما يختص بصحة الكلب، لكن بالنسبة للأسنان بشكل خاص فالأطباء البيطريون يقومون بالأشياء البسيطة مثل إزالة الجيرعنها وتنظيفها وحتى رصرصتها اما زراعة الأسنان فمهمة صعبة تحتاج الى اختصاصيين في مجالات مختلفة منها نزع العصب واخذ المقاسات ومن ثم زرع الأسنان من هنا كانت ضرورة التعاون مع ثلاثة أطباء أسنان لم يكن إيجادهم بالأمر السهل ليتعاملوا مع كلب كبير من هذا النوع. وقد تمت العملية على مرحلتين مع بنج عمومي تابع تفاصيله د. معوض للتأكد من سلامة الكلب وقدرته على تحمل العملية وتكللت بالنجاح واستعاد “ألفا” عضته المعهودة وضحكته الموعودة في سابقة ترفع لها القبعات.
حيوانات مكتئبة
كلفة الجراحة المميزة هذه بلغت حوالى 1000 $ لم يتوان صاحب الكلب عن تسديدها بكل طيبة خاطر. والعمليات الجراحية للكلاب والقطط ليست بالأمر الغريب بل هي شائعة وقد شهدت العيادات البيطرية دفقاً من الحيوانات المصابة التي تحتاج الى جراحات وعلاجات إثر انفجار المرفأ. ويقول د. معوض ان عيادة Santé Animale استقبلت مثل غيرها الكثير من الحيوانات الأليفة المصابة بجروح وبكسور وبإصابات في العينين إضافة الى تعرضها إلى نزيف داخلي ومشاكل صحية أخرى نتيجة تطاير الزجاج وسقوط الجدران والأشياء الثقيلة عليها او بسبب وقوعها من الطوابق العليا وغيرها من الإصابات. وقد احتاج الكثير منها الى تقطيب للجروح وتجبير للكسور حتى ان بعضها خضع لعمليات بتر نتيجة لإصابة العصب أو خضعت لعلاجات دقيقة في العينين. فالحيوانات الأليفة قد عانت كما اصحابها وكأهل بيروت اجمعين من ذاك الانفجار الرهيب ودفعت ثمن قلة إنسانية المسؤولين واستهتارهم. ولم تكن معاناتها على الصعيد الجسدي فحسب وفق ما يقول د. معوض بل على الصعيد النفسي ايضاً. فالحيوانات أصيبت بالصدمة وخافت واكتأبت وانزوت ولم تعد تأكل أو تشرب لا لأنها مصابة او خائفة فقط بل ايضاً لأنها رأت أصحابها يموتون أمامها أو يقعون مصابين متألمين…
هكذا هي الحيوانات تحمل كماً من الرأفة والحنان والإنسانية قد يفوق بأضعاف ما لدى بعض الناس أحياناً. ولكن هل يبادلها الناس هذه المحبة ويواصلون العناية بها في الأوقات الصعبة التي نعيشها أم يهملونها ويتجاهلونها وفق مقولة “من بعد حماري لا ينبت حشيش؟”.
الصحة قبل الترف
لا شك ان الوضع الاقتصادي أثر على معاملة اللبنانيين لحيواناتهم وقسمهم الى فئتين وفق ما يشرح لنا الخبير أكرم جندح صاحب مؤسسة Pet Expert. فالفئة الأولى لم تعد قادرة على الاعتناء بحيوانها الأليف ووجدت أنها ولو نزعت اللقمة من فمها وأطعمته إياها ستبقى مقصرة معه فراحت تبحث عمن يتبناه ويؤمن له حياة افضل. اما الفئة الثانية وهي الفئة المقتدرة فقد سعت لتخزين كل ما يلزم حيواناتها لأشهر الى الأمام وتمونت كميات كبيرة من الأطعمة والاحتياجات حتى لا يعوز الحيوان شيئاً ويبقى معززاً مكرماً في بيتها… ولكن الخبير يؤكد أن الأزمة المالية التي ألقت بظلالها على عملية بيع مستلزمات الترف والألعاب والأكسسوارات، بالنسبة للحيوانات لم يكن لها تأثير كبير على الاهتمام بصحتهم ومتابعة مشاكلهم الصحية واللقاحات بشكل دوري…
هنا عادت الى بالي صورة “ابو اسحق” بأسنانه الفارغة وكثير من صور أطفال الشوارع وصور “عوائل” كانت حتى الأمس القريب تعيش مستورة وصارت اليوم تشتهي عضة الرغيف… ألهذا الحد صار الإنسان يحسد الكلاب على عيشتها في بلده، ويبحث عمن يؤمن له مثلها احتياجاته الاساسية؟
الاحتياجات الأساسية مؤمنة لكن أسعارها ارتفعت جداً فبات على اصحاب الحيوانات اجراء بعض الخيارات الصعبة، وحدها الأمور الطارئة هي التي تدعوهم للتوجه الى العيادات البيطرية بحسب د. معوض أما المتابعة الدورية فيمكن تأجيلها او غض النظر عنها وحتى بعض العمليات المكلفة مثل تجبير رجل مكسورة بات قسم من الناس يقررون الاستغناء عنها ولو اضطروا الى ترك كلبهم يسير برجل عرجاء…فالعمليات المتعددة التي كانت تجرى سابقاً والتي تبدأ كلفتها من 100$ وصولاً الى 3000$ قد خفّت أعدادها لكن يبقى بعضها ضرورياً ولا يمكن تجنبه حفاظاً على حياة الحيوان. إذا كانت الشؤون الصحية للحيوانات هي الأولوية فإن الاطعمة ومستلزمات النظافة تحتل المرتبة الثانية.
فالأطعمة زاد سعرها خمسة او ستة اضعاف لذلك يقول جندح نحن كمستوردين بتنا نسعى للموازنة بين ربحنا وقدرة الزبائن وقد خفضنا أرباحنا بشكل كبير حتى لا يضطر الناس للتخلص من كلابهم وقططهم، كما عرضنا عليهم اصنافاً جديدة غير تلك المتداولة في الأسواق أرخص ثمناً وبالجودة ذاتها. ولكن المشكلة ان الحيوانات حين تعتاد على نوعية معينة من الأطعمة يصبح من الصعب عليها استبدالها (عوّد كلب ولا تعوّد بني آدم) لذلك اعتمدنا طريقة تقديم كمية قليلة للتجربة فإذا تقبلها الحيوان كان ذلك خيراً وإلاّ لا بد من إطعامها الى كلاب وقطط الشوارع والعودة الى الأصيل…اما “الطعوم” فثمة شركات تحتكر استيرادها ولا يمكن لأصحاب محلات بيع مستلزمات الحيوانات الأليفة او العيادات البيطرية التحكم باسعارها وإجراء الحسومات عليها. لا شك أن اصحاب الحيوانات تأثروا بارتفاع الأسعار وكذلك الجمعيات الخيرية التي تعنى بإطعام الحيوانات الشاردة في الشوارع، إذ صارت الكلفة بالنسبة لها عالية جداً ما اضطر بعضها الى التراجع او اعتماد التقنين حتى في العمل الخيري.
بعيداً عن المأكل والدواء باتت الكلاب في لبنان تأسف على دلال ورفاهية عرفتها في عهود سابقة حين كانت تقصد مراكز العناية و”السبا” حسبما يخبرنا جندح للحصول على مساج بالماء الساخن للعنق والكتفين او للحصول على قصة شعر سبايكي او مع غرة لإطلالة أجمل. الكلاب كما الهررة كانت تتدلل وتعيش عيشة الرخاء وكنا نهتم برفاهيتها وحتى القيام ببعض الإجراءات التجميلية الخاصة بالكلاب مثل البديكور وقص الأظافر وتزيينها بالرسوم أو وضع طبقة بلاستيكية فوقها مدة صلاحيتها تدوم حتى شهرين. وكان اصحابها يحرصون على إجراءات النظافة الخاصة بها فيجلبونها إلينا للاستحمام وقص شعرها أو ما يعرف بالـ grooming وتنظيف العينين والأذنين وتنظيف الأسنان وتبييضها أو الى العيادات البيطرية لإزالة طبقات الجير السوداء عنها وحتى وضع أجهزة تقويمية لها إذا كانت اسنانها “دافشة” نحو الأمام.
إذاً عرفت الكلاب أيام عز في لبنان ولا تزال، واصحابها يتفننون في جعلها الأجمل، وهذا ما يدفعنا الى التساؤل: لبنان الذي كان حتى الأمس القريب بلد السياحة التجميلية هل تزدهر عمليات تجميل الحيوانات فيه؟
بالطبع لا، يؤكد د. معوض، ولكن عمليات الترميم معروفة فنحن نعمل مثلاً على معالجة الحروق التي قد يتعرض لها الحيوان ونقوم بزرع جلد بدل الجلد المحروق وكذلك نعمل مثلاً على استئصال أورام سرطانية من الثدي او نزيل طحالاً نازفاً نتيجة ورم وقد نطلب عمليات محددة مثل إزالة الرحم او خصي الحيوان وقد نرصرص سناً معطوبة لكننا لا ندخل المجال التجميلي.
لكن اكرم جندح يفيدنا بان تعلق بعض الأشخاص بكلابهم يدفعهم نحو إجراءات غريبة فقد يقوم البعض بحقن كلابهم من نوع الـ pitbulls او الـ Rototillers بحقن البروتين وإجراء التمارين الرياضية الخاصة لها حتى تبرز عضلاتها وتبدو أجمل ليتباهوا بأجسامها فيما هناك كلاب يخضعها أصحابها لريجيم تنحيفي ويطعمونها انواعاً محددة من المأكولات إذا كانت لديها قابلية للسمنة لا سيما بعد عمليات الخصي.
قد يطول الحديث عن الحيوانات الأليفة وعلاقة اصحابها بها ويتخذ بعداً إنسانياً بتنا في أمس الحاجة إليه في هذه الأيام الصعبة، بعد ان صارت الحيوانات هي المتنفس الوحيد للمواطن اللبناني.