أقفل عدد كبير من شركات الدواء العالمية مكاتبه التمثيلية في لبنان. إلى جانب العدد الكبير من المصروفين من هذه المكاتب، ثمة تداعيات أخطر على موقع لبنان العلمي وعلى ريادته الطبية التي جعلته يوماً «مستشفى الشرق الأوسط»
مع بداية الأزمة الاقتصادية، لجأت المكاتب العلمية التمثيلية لشركات الأدوية العالمية في لبنان إلى «إعادة الهيكلة» عبر تقليص عدد الموظفين في كل أقسامها والتخفّف من بعض المصاريف للحفاظ على وجودها في السوق اللبناني. اليوم، وصلت هذه الشركات إلى نهاية الطريق، ليس فقط بسبب اشتداد الأزمة المالية، وإنما أيضاً لأن لبنان لم يعد «priority market» بالنسبة إليها.
ويعتبر المكتب التمثيلي لأي شركة أدوية عالمية بمنزلة سفارة لها في بلد أو إقليم معيّن (في لبنان، تتابع المكاتب التمثيلية للشركات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باستثناء دولة الكيان). وتقع على عاتقه مهمتان أساسيتان، الأولى، متابعة الدراسات الخاصة بأدوية الشركة قبل طرح دواء جديد في السوق وبعد تسويقه، والثانية تتعلق بالعملية القانونية لتسجيل الأدوية في الدوائر المعنية في الدولة. لذلك، لا ينحصر تأثير إقفال هذه المكاتب بفقدان نحو 2000 من أصل 4 آلاف موظف أعمالهم وانضمامهم إلى لائحة العاطلين عن العمل. فعلى أهمية ذلك، ثمة تأثيرات أهم على سوق الدواء. إذ إنّ وصول الشركات العالمية إلى قناعة بأن السوق اللبناني لم يعد أولوية، يعني فقدان لبنان جزءاً مما كان يمتاز به لبنان كـ«مستشفى للشرق الأوسط».
ويوضح نقيب مستوردي الأدوية وأصحاب المستودعات جوزف غريب أن لبنان بعد إقفال هذه المكاتب «لا يعود جزءاً من خارطة الدواء العالمية، فتتوقف الشركات عن إعطائه الأولوية في الحصول على الأدوية الجديدة والمتطورة لمراقبة جودة الدواء، كما لا يعود شريكاً في التجارب السريرية للأدوية الحديثة، وتحديداً في الأمراض السرطانية والمستعصية والمزمنة». كما أن لذلك تداعيات أخرى، منها وقف الاستثمار في مجال الأبحاث العلمية والسريرية وتطويرها، وتوقف تدريب الأطباء في المؤتمرات العلمية التي كانت تقام في لبنان وخارجه، ما يؤثر على موقع لبنان كمرجع في مجال الطب والأبحاث العلمية المتطورة، وعلى الأطباء الذين يفقدون دور الريادة كـ «key opinion leaders»، وقد بدأت تظهر مفاعيل تراجع اهتمام الشركات بلبنان، مع وصول أدوية جديدة إلى دولٍ مجاورة، كانت سابقاً تصل إليه قبل عامٍ تقريباً من وصولها إلى هذه الدول.
لم يعد لبنان أولوية لدى الشركات بعدما كانت العلاجات الحديثة تصل إليه قبل بقية دول المنطقة
ومثال على ذلك دواء mounjaro لعلاج داء السكري والتنحيف، وهو علاج جديد، موجود في دبي منذ عام، فيما لم يصل بعد إلى لبنان. وأضف إلى ذلك كله التأثير الذي يتركه غياب المكاتب التمثيلية على الحركة الاقتصادية لناحية توقف المؤتمرات الطبية والحجوزات في المطاعم والفنادق.
اليوم، أكثر من نصف المكاتب العلمية التمثيلية لم يعد لها وجود مباشر في لبنان. وتقدر كارول حسون، رئيسة Lebanon pharma group، وهو تجمع يضم 20 شركة عالمية، عدد المنسحبين بـ60% «فيما صار الوكيل هو المسؤول عن شحن الأدوية». وبعيداً عن الشركات التي حسمت أمرها سابقاً، ومنها «نوفارتس» و«سانوفي» و«ميدا» و«غلاكسو» و«حكمة» و«تبوك» وغيرها وهي شركات باتت شبه غائبة، صرفت شركة eli lilly and company مؤخراً 8 موظفين من كل الأقسام ضمن مكتبها، أكثرهم من قسم التسويق. وقال بعض المصروفين «إن الشركة لم تعد تنوي التسويق لمستحضراتها الطبية في لبنان». كذلك قامت شركة «فايزر» بعملية صرف جديدة طالت 19 موظفاً وأبقت على 15 تقريباً، وذلك بعد جولتين سابقتين من الصرف طالت الأولى 40 موظفاً والثانية 30. وعزت المصادر السبب إلى «الأزمة التي راكمت مستحقات لفايزر، إضافة إلى تراجع عملية التطعيم، إذ لم يعد اللقاح هاجساً للدول ومنها لبنان». ويضاف إلى شركات التجمع العشرين، نحو 20 شركة صغيرة تخففت هي الأخرى من الأعداد إلى الحد الأدنى أو أقفلت مكاتبها نهائياً.
أسباب الخروج
الأزمة المالية المستمرة منذ أربع سنوات ولّدت مجموعة من الأسباب جعلت من البقاء مستحيلاً في لبنان. ومن بين القائمة، تبدأ حسّون برفع الدعم عن عدد كبير من الأدوية ما أخرجها من قائمة الاستيراد لأن أسعارها لم تعد «في متناول الجميع، ولا يستطيع المرضى دفع ثمنها من جيوبهم». أضف إلى ذلك قضية المستحقات العالقة لدى مصرف لبنان منذ سنوات، وتقدر بـ175 مليون دولار، و«لا يبدو أن لدى الحكومة اللبنانية نية لتسكير الحساب». وثالث الأسباب «الأدوية المزوّرة والأدوية المهرّبة بكميات كبيرة ما أثر على عمل الشركات أيضاً. فعندما نتحدث عن دواء، هناك شروط ومعايير يفترض الالتزام بها في النقل والتوضيب والتخزين والشحن، وأي خلل في هذه الشروط يعرّض حياة المريض للخطر. ولهذا في التهريب يمكن اعتبار كل دواء مهرّب وكأنه مزوّر وخطر على المريض».
في رابع الأسباب، تأتي خطة وزارة الصحة التي تعتزم اعتماد لائحة الأدوية التي توصي بها منظمة الصحة العالمية وهي في معظمها بحسب حسون «أدوية قديمة جداً لا تتناسب مع الأدوية المتطورة التي تصنعها الشركات، خصوصاً في مجال الأمراض السرطانية والمستعصية، وهذا يصعّب الوضع لدى الشركات العالمية».
شركات الأدوية تنصب على المصروفين
مع اندلاع الأزمة المالية عام 2019، قرّرت شركات الأدوية العالمية تقليص عدد موظفي مكاتبها التمثيلية، وصولاً إلى إقفالها. وفي الفترة الفاصلة بين بداية الأزمة والعام الماضي، صرفت هذه الشركات أكثر من نصف العاملين في مكاتبها (كان يقدر عددهم بحوالي 4 آلاف موظّف).
ورغم أن الشركات سدّدت للمصروفين تعويضاتهم، إلا أنها عمدت إلى الاستحواذ بغير وجه حق على مبالغ كبيرة من هذه التعويضات تقدّر بملايين الدولارات، إذ اقتطعت ضريبة الدخل المتوجّبة على تعويضات المصروفين بالدولار وسدّدتها للخزينة بالليرة. ولم يفلح اعتراض المصروفين على الفارق الكبير بين ما تقتطعه الشركات من حقوقهم وما تدفعه للخزينة، فانتقلوا إلى «الخطة ب» بمحاولة إقناع إداراتهم بإيجاد صيغة عادلة تخفف من المبلغ المقتطع. وفيما نجح بعضهم في ذلك، أقنع آخرون الشركات بالتريث في دفع الضريبة لأن الدولة قد تصدر إعفاءات على ضريبة التعويضات. وقد وُعد هؤلاء بأنه «في حال صدور إعفاءات ستردّ الشركات المبالغ المالية المقتطعة». وبالفعل، نصت المادة 36 في موازنة عام 2022 على«إعفاء التعويضات التي تعطى للمستخدمين والعمال نتيجة صرفهم أو استقالتهم من الضريبة على الدخل خلال الفترة الممتدة من الأول من تموز 2019 حتى أيلول 2022». غير أن إدارات الشركات لم تلتزم بالنص القانوني، وكان جواب إحدى الشركات الكبرى لأحد المصروفين أن بإمكانه استرداد المبالغ المقتطعة من الدولة، علماً أن هذه كانت تستوفي الضرائب حتى عام 2021 على أساس سعر صرفٍ 1500 ليرة للدولار، قبل أن تبدأ استيفاء الضرائب والرسوم على أساس 8 آلاف ليرة ومن ثم 15 ألف ليرة ابتداءً من 15 تشرين الثاني من العام الماضي.
ويقول أحد المصروفين إنه أرسل إنذاراً إلى الشركة عبر الكاتب بالعدل للمطالبة «بحقوقنا بعد صدور الإعفاءات، إلا أن الجواب كان بأنه لا يحقّ لي استرداد أي شي». صحيح أن هذا الأخير، الذي «خدم» الشركات على مدى 21 عاماً، استطاع تقليص المبلغ «بعد مباحثات طويلة مع إدارة الشركة من 22 ألف دولار ضريبة إلى 6 آلاف دولار، إلا أنه في هذا الظرف الـ 6 آلاف دولار ليس مجرد رقم». فقبل الأزمة، كانت «المئة دولار تساوي 150 ألفاً. واليوم، تساوي المئة دولار على أساس 8 آلاف ليرة 800 ألف ليرة وليس 8 ملايين و900 ألف ليرة كما أخذوها منا». أما الأنكى من ذلك، فهو ما أخذته الشركة «مني خلال ثلاث سنوات كضريبة على الدخل قبل أن أصرف، إذ كانت تقتطعها شهرياً من راتبي بالدولار وتسددها للخزينة بالليرة من دون وجه حق». وهذا أيضاً ما حدث مع كثيرين، وما يخالف نص المادة 35 من قانون الموازنة العامة لعام 2022 التي تشير إلى أنه «تحتسب الإيرادات الخاضعة للضريبة على الرواتب والأجور المدفوعة نقداً بالدولار الأميركي (…) عن الفترات التي تسبق 15 تشرين الثاني على أساس سعر صرف 8 آلاف ليرة، وعن الفترة ابتداءً من 15 تشرين الثاني على أساس سعر صرف 15 ألف ليرة». وبما أن كل المصروفين صرفوا بين تموز 2019 وأيلول 2022، فهؤلاء يخضعون حكماً لنصَّي المادتين، سواء في ما يتعلق بضريبة الدخل على الراتب أو التعويض. وسنداً لذلك، ما فعلته الشركات يطاول أكثر من 100 مصروف اقتطعت مبالغ كبيرة من تعويضاتهم، وصلت لدى بعضهم إلى حدود 25 ألف دولار.
ولدى سؤال رئيسة تجمّع المكاتب التمثيلية لشركات الأدوية العالمية، كارول حسون، عن الأمر، أجابت بأن «الموضوع تتابعه نقابة الصيادلة مع الشركات، ونحن كتجمّع لا نتدخّل بخصوصيات الشركات»، مشيرة إلى أن «من المفروض أن تكون هناك حلحلة لهذا الموضوع قريباً».
الضمان: التعويض الكارثة
«كلّه بكفّة وتعويضات الضمان بكفّة أخرى». هذا ما يقوله معظم المصروفين عن التعويضات المستحقة لهم من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. لم يكفِ هؤلاء ما فعلته الشركات في تعويضات الصرف، حتى أتت الصدمة من الضمان. يروي أحد المصروفين أنه «عندما ذهبت لتصفية حسابي في الضمان، فوجئت بأن ما يستحق لي عن 20 سنة عمل يقدر بحدود 120 مليون ليرة لبنانية، أي بحدود 1200 دولار أميركي». وهنا، تتكرر السردية نفسها، مع تصريح الشركات عن موظفيها لدى إدارة الصندوق بالعملة اللبنانية لا بالعملة التي يقبضون بها، ولذلك كانت تدفع المساهمة بالليرة اللبنانية وتقتطعها من الموظفين بالدولار. ويشير أحد الموظفين إلى أنه يملك «إثباتاً عن تحويل الراتب إلى المصرف بالدولار، وأنا أتقاضاه بالدولار وكذلك أدفع ضرائبي بهذه العملة. وقد جمعت ملفّي وتقدّمت بشكوى لدى الضمان، وإن لم أصل إلى نتيجة سأتقدّم بشكوى في وزارة المالية». حتى اللحظة، يرفض هذا الأخير، كما غيره، تسلّم تعويضاتهم من الضمان «لأنها لا تساوي شيئاً»… مع الرهان على إمكانية تغيّر الوضع بحيث تصبح للمئة مليون قيمة قد تعوّضهم ما اقتنصته الشركات من حقوقهم.