من سيتأهّل إلى المرحلة المقبلة من المعركة الوجوديّة؟
إنحدر المستوى الصحي في لبنان، حتى بيع حبّة دواء – وهو أمر مخالف للقانون- بالمفرّق كرسالة إنسانية. هكذا يكون لبنان شرعياً دخل عصر “ثقافة الفقراء”، الذي يفرض على الفقير أن يبتدع أساليب للتكيف مع الظروف الاقتصادية، محرّضاً بذلك صاحب الصيدلية على كسر القاعدة.
لا يطرد صاحب الصيدلية المريض طوعاً، بل جوني (كسروان) مريض قلب يدور طوعاً بين تلك الصيدليات علّه يجد دواء القلب، وقد لا يصل الى مبتغاه الا في المتن أو في جبيل وربما النبطية ان استعان بمواقع التواصل الاجتماعي لينادي على مراده. وفعلاً هذا ما حدث مع مارتين (جبيل)، التي احتاجت دواء لمرض السرطان وقد عممت الأمر على كل معارفها. وبعد أخذ ورد، استطاع احد الأصدقاء بالتعاون مع ساعي خير طرابلسي، ان يبتاع لها مغلفاً لن يكفي الا لأسبوع. بعض الاوجاع تتطلب ادوية غير مدعومة باعتبارها فقدت هذه الميزة، مثل مرض النشاف، او تصلب الشرايين، لتصل فاتورة هدى (المتن) الى 700 الف ليرة شهرياً ثمن الادوية بين مسكنات تضاعف سعرها، وبين ما هي بحاجة اليه، لتعرف النوم بعد ان يصمت ألم رجليها. وان صمت الوجع يصحو البؤس. فكل ذلك، يحتاج الى وصفات طبية، وبعض الأطباء “يشرّجون” على الوصفة، حتى لو كانت من حق المريض.
فقدان الادوية او غلاؤها “لامناطقي”، مع ذلك يحصر المواطن دائرة بحثه، ضمن حارته. وحده الفيسبوك يكسر الحدود الوهمية بين المناطق التي ترسمها الخطوط السياسية، التي تنخر في الرؤوس على الرغم من انف الدستور، الذي وحّد الأراضي اللبنانية، فارضاً التضامن الاجتماعي بين المرضى.
انعكاس فقدان القدرة الشرائية للمواطن، كبير على أصحاب الصيدليات. فالمواطن الذي يمتلك اليسير من المال، من المرجح الا يجد ما يبحث عنه في الصيدلية قرب المنزل، التي كان يتصرف معها كأنها “دكانة” الحيّ. هكذا جالت “نداء الوطن” على أصحاب صيدليات في المتن الساحلي (الذي يحوي 250 صيدلية) وكسروان (180 صيدلية) لتقف على آرائهم.
لا سياسة هنا، بل استفهام وحيد: كيف يلبّون هذا المواطن الذي يدور كالنحلة بحثاً عما يطفئ ألمه وقلقه؟ قسّمت هنادي (صاحبة صيدلية في كسروان – اسم مستعار) الادوية الى تلك التي ما زالت مدعومة وغير مدعومة المسعّرة بنسبة 80% على دولار بسعر صرف السوق، والتي يتبدل سعرها مع تبدل سعر الصرف. هنا تشرح عن نوعية من الزبائن لا تستعين بتطبيق الصيدليات وتعتقد ان الصيدلي تاجر ويتلاعب بالأسعار، فتحصل “مناوشات” وصراعات استنكاراً لتبدل الأسعار التي تفرضها وزارة الصحة من القانون المادة 80. لا تنفي هنادي وجود “تجارة” بين بعض أصحاب الصيدليات الذين يستفيدون من انقطاع الادوية لبيع المادة النادرة على السعر غير المدعوم بالدولار، مؤكدة ان هؤلاء معروفون بالاسماء لا بل يتم تحذيرهم في المجموعات على “واتس اب”، من زملائهم، عن هذا التصرف المسيء الى سمعة المهنة، بعد ان يمتعض المواطن ويتناقل هذا النوع من القصص في المنطقة، أي كسروان. هنادي تشعر بالغبن، فحصتها من الادوية صغيرة و”معصورة” كما تصفها فتحصل على علبتين او ثلاث مما تحتاجه، وعند الحشرة ان اتصلت بمندوب أي شركة دواء، قد يدلها على زميل لها، أي صيدلية أخرى لكن على المريض ان يدفع بالدولار.
هلع المواطنين وتخزين المقتدرين، اخذ الدواء من درب الفقراء او متوسطي الحال، فيعيد الذي خزن الدواء مادته الى الصيدلية قبل ان تنتهي صلاحيتها، وبحسب هنادي لولا ذلك، لكانت الادوية المخزنة سابقاً غطت حاجة السوق، لو كل فرد اشترى ما يحتاجه فقط. مع ذلك ينتظر الصيادلة الـ”كمّون” من وعد وزارة الصحة، أي حلحلة الوضع وحصولهم على ادويتهم التي هي البضاعة التي يبيعونها ليحصلوا على قوت يومهم.
تصف بولين (صاحبة صيدلية في المتن) الوضع بالصعب فسنة ونصف انتهت بدون ان تتسلم ادوية الامراض المزمنة وطريقة حصولها على الدواء “بالشحادة” فتدور بين صيدليات المتن من بسكنتا الى بتغرين لتجد ما يلبي أهلها بالحد الأدنى. تحدد بولين ان كل عمليات التسلم والتسليم مع الوكالات تحصل وفق الوصفة الطبية الموحدة للمريض مع الهوية، للرقابة على التهريب او ضبط عملية البيع، وهي ادوية بسيطة على حد تصنيفها.
امام هذا الواقع لا مدخول للصيدلية الفارغة من الادوية، فخفضت ساعات فتح الصيدلية بدون اضاءة لتوفّر في فاتورة المولد ومع ذلك، حتى بدل الإيجار الى ارتفاع فزاد مصروفها وتفكر على المدى البعيد بالهجرة.
ربيع (صاحب صيدلية في كسروان) يقيّم عملية تخزين المواطن للادوية بالخفيفة، فاليوم الدواء غير موجود وان توفر بالقطعة، أي علبة، وتلك تباع الى اول الوافدين الى صيدليته، معللاً هذه الندرة بان بعض الوكلاء لم يتسلموا الادوية من الخارج بسبب عدم ثقة الشركات الأجنبية بقدرة لبنان على تسديد الفواتير فحتى القديمة لم يسدد سعرها.
يتكل ربيع على بيع المتممات الغذائية ولوازم الأطفال ليغطي مصاريف صيدليته المستمرة حتى الساعة مع ارتفاع صرخة عدد كبير من أصحاب الصيدليات في المتن الذين يهيئون انفسهم الى مرحلة “الإفلاس”، مع عرض اكثر من 600 صيدلية للبيع كطوني (المتن) الذي يطالب برفع الدعم ليستمروا مع أهمية الرسالة الإنسانية. يؤكد ان الإنسانية كذلك الامر تقتضي ان يؤمنوا هم أيضاً لقمة العيش في ظل حصر تسليم الادوية ومقاطعة بعض الشركات الأجنبية الأسواق اللبنانية او طردها موظفين وحتى احتمال انتقالها من لبنان. يتنبأ طوني بمرحلة سوداوية عنوانها فقدان الادوية فحتى الادوية اللبنانية “الجنريك” موادها الأولية من خارج لبنان. هكذا ينتظر وكلاء الادوية مرحلة رفع الدعم كما أصحاب الصيدليات. غير ان مصلحة الاولين في بيع ادويتهم على “العالي” والذين يتجاوبون مع الاقاويل في السوق التي تلمح الى مرحلة رفع الدعم نهائياً. وفي هذا الاطار، يتكئ فرج (صاحب صيدلية كسروان) على المسكنات التي كان قد خزن منها القليل ليستمر ويدفع رواتب الموظفين، متصوراً سيناريو يشبه وضع العراق والبلدان الفقيرة حيث تشتري الدولة دواء اولياً لتوزعه على مستوصفات، وبرأيه من يملك “الكاش” هو من سيتأهل الى المرحلة المقبلة من المعركة الوجودية في لبنان على امل ان يصبح الدواء متوفراً ليلبي المواطنين. يقترح جو (صاحب صيدلية في الزلقا) وضع مقطوع ثابت للصيدلية شهرياً تضعه وزارة الصحة او النقابة بغض النظر عن المبيع لتستمر. اذاً المسألة غير متعلقة ببلديات او اتحادات كما حاول اتحاد بلديات جبيل وكسروان إيجاد حلول للازمة الدوائية، مرشداً الى المستوصفات ومتواصلاً مع الشركات اللبنانية المنتجة للدواء لتلبية حاجة سوق المناطق هذه، انما متعلقة بسياسة عامة عالقة بعنق زجاجة الإفلاس.