Site icon IMLebanon

ثورة الذهب الأبيض في أنفه… حيث يُفتقد الملح لا تنفع البهارات

 

25 دولاب هواء عادت تدور في سمائها

 

البحر أسرار، والبشر ملح الأرض، وحيث يفتقد الملح لا تنفع البهارات… ساعاتٌ أمضيناها في أرض الملح والأسرار في أنفه حيث سمعنا مرات، على ألسنة الأنفاويين، أنه حيث يؤكل الملح يفترض ألاّ تُكسر المملحة. لكن ما قصّة ملح أنفه؟ وهل هناك من يضمر به شراً؟

 

على بعد 65 كيلومتراً الى الشمال من بيروت تشمخ أنفه. وعند الإستقبال دولاب كبير يدلّنا على الطريق. دواليب الهواء هي رمزٌ قديم يتجدد في البلدة. وقد اعيد صنع 25 دولاباً في العامين الأخيرين زُرعت على البحر وعلى شاطئ تحت الريح وفي جنبات الملاحات التي عادت تعمل متحدية الملح المصري الذي غزا السوق وكاد يسحب البساط من تحت قدمي الملح اللبناني الأنفاوي لولا إرادة الجيل الجديد.

 

«قطاف الملح»

 

نعم، الجيل الجديد في أنفه عاد الى تشغيل الملاحات بعد توقف قسري طويل. فلندخل في العمق لنتعرف أكثر على الواقع الجديد والتاريخ والآثار وجمال مدينة تتمدد على البحر بعنفوان. الحرّ شديد. إنها أول أيام آب اللهاب، المنافس الأول لتموز الذي عبر وشهدنا في أيامه المنصرمة غليان المياه في الكوز ونحن في زمن أصبح يغلي فيه كل شيء حتى البيئة والطقس. الحرارة تكاد تلامس الأربعين. لكن جمالية المكان وسحر بياض الملح وزرقة البحر النظيف تخفف من قساوة الطقس.

 

نقف عند حفافي الملاحات، في أسفل دير الناطور، جنب الصبيّة جيسيكا النجار التي عادت تحيي مع شقيقتيها الموجودتين في الإغتراب مهنة الأجداد. أعادت جيسيكا الحياة الى الملاحة التي تملكها العائلة وتقول: «نحن ثلاث بنات عدنا لنتابع عمل اجدادنا. هنا كبرنا وترعرعنا. ثمة نوستالجيا مع المكان والملح. ونعمل حالياً على تطوير تقنيات العمل ليصبح الإنتاج أكبر مع المحافظة على الحرفة التاريخية وعدنا نقطف الملح».

 

نتوقف عند عبارة: قطاف الملح. فهل الملح يقطف؟ يبدأ العمل في استخراج الملح في ايار ويمتد الى ايلول وإذا سنح الطقس يستمر حتى تشرين الأول. وكل قطفة ملح تحتاج من خمسة عشر الى عشرين يوماً. نراقب عمال الملاحات وهم يرتدون الأحذية العالية وقبعات القش ويحركون في المياه الموجودة في البرك لإتمام العملية. نراقبهم يغنون فرحين. العمل في الطبيعة دائماً جميل ويمنح مشاعر إستثنائية. وتخبر جيسيكا: «عملية استخراج الملح طبيعية مئة في المئة وتعتمد على الهواء والشمس والمياه. نضخ المياه من البحر في برك واسعة، موجودة أعلى قليلا من البحر، ونتركها لتصل الملوحة فيها الى نسبة معينة، ثم ننقلها الى أجران لا تتخطى نسبتها العشرين سنتمترا. ويلعب الهواء دوره وهو يساعد لتولد زهرة الملح على وجه المياه. تلك الزهرة تقطف وطعمها لذيذ. عملية القطاف دقيقة جداً لذلك تكون زهرة الملح أغلى من سواها. التكرير طبيعي والملح طبيعي والفحوصات تجرى دورياً للتأكد من مواصفات الإنتاج».

 

نقف عند جانبي الأجران وننظر الى الملح الأبيض وهو يلمع تحت أشعة الشمس. مشهد رائع. وتقول جيسيكا: «نحن نحارب لنحافظ على حرفتنا وملحنا بالفعل يملّح».

 

ثورة الملح

 

ليس بعيداً كثيراً عن الملاحات الأربع التي عادت تشتغل يوجد بيت الملح Maison Du Sel. صاحب البيت حافظ جريج يقول إن عائلته تعني باليونانية «حارسي الأرض وحُماتها». ويقول: «هنا سكن الإنسان الأول والفينيقيون إحتاجوا الى الملح من أجل حفظ الطعام أثناء الترحال في البحر. ونحن، منذ ذلك الحين، مستمرون في مهنة صناعة الملح. يضيف: ايام الإنتداب الفرنسي حطموا ملاحاتنا التي نافست ملاّحاتهم، فقامت ثورة في البترون وأنفه ضد القرار التعسفي وهناك شاعر قال في حينها: ملاحة ما منكسر، ولو تحت السيف متنا، الملاحة رزقنا وعيشنا. زمان كان لكل عائلة ملاحتها. النساء يعملن في البرك والرجال في التجارة واصطياد السمك. وكان يستخدم الملح في كبس السمك والسردين في سلال من قصب. وبنيت برك واجران على آلاف الأمتار. إنها ملاحات أثرية. وكم حاولنا لاحقا إعلان رأس الملاليح ورأس الناطور منطقتين محميتين والإبقاء على الأرض عذراء بعيدة عن دنس المباني والمشاريع المتربصة. منطقة الملاليح في انفه هي الأكثر نظافة على طول الشاطئ اللبناني وهذا ما يتكرر سنوياً وفق فحوصات مركز البحوث العلمية».

 

كي لا يقال كان يا ما كان في قديم الزمان هناك دينامية اليوم على الأرض، في أنفه، لإبقاء الحرفة حيّة. ويقول جريج: «منذ أكثر من عشرين عاماً أجّر البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم والمطران الياس قربان 800 ألف متر مربع من الأراضي لمجموعة تبيّن لاحقا أنها لا تؤمن إلا بالمال وتنوي بناء شاليهات حول الدير. ومنذ ذاك الحين أعلنا ثورة الملح. موريس فاضل كان أحد الشركاء في المشروع وهناك جاك صراف أيضاً. يومها – يضيف جريج – قال لي صراف: نحن نريد ان نبني شاليهات للملوك والرؤساء العرب. عرقلت المشروع وأعلنت ثورة الملح وسلاحها الكلمة والصورة والعلم والقانون. كل ذلك أعاق حرفة صناعة الملح اللبناني الأنفاوي وهجر كثيرون ملاحاتهم. لكن لم نسكت ولم نرتح. وجامعة البلمند درست البيئة البحرية واتخذ القرار: إعلان المنطقة محمية بحرية طبيعية». حالياً، الصراع قائم بين لغة البيئة والملح ولغة المشاريع الطنانة الرنانة. فمن سيغلب؟

 

كانت حاجة لبنان من الملح 50 ألف طن في السنة. وأنفه كانت تنتج وحدها 35 ألف طن سنوياً. لذلك اعتبرت عاصمة الملح اللبناني عبر التاريخ. شاطئ أنفه طوله خمسة كيلومترات وكان كله ملاحات. الملح سميناه الذهب الأبيض. والملح في أنفه هو أفضل أنواع الملح في كل العالم. يتم إستخراج الملح عالميا من مستنقعات ترابية تحت مستوى البحر ولونه رمادي أما هنا فلونه أبيض مثل الثلج ولا تدخل فيه عملية التكرير أبداً. وملاحاتنا لا تقطع المدى البصري مع البحر. وزهرة الملح التي نقطفها من عجائب الطبيعة. هناك في أنفه أيضا شهداء الملح. نعم للملح شهداء هم من سقطوا على الدواب أو غدر بهم البحر وهم يقومون بعملهم واختفوا فيه. وهناك في أنفه أيضا خارطة دروب الملح. هناك في أنفه ملح وزيتون وسمك. السمك يحتاج الى الملح والزيتون أيضا يحتاج الى ملح. وهذا معناه أن الملح يحلّ دائما أوّل. وواحد على سبعة من مساحة أنفه مزروعة بالزيتون. أكبر غابة زيتون على الساحل اللبناني موجودة هنا».

 

دواليب الهوا

 

نسرح على طول الشاطئ في أنفه. دواليب الهواء ملونة جميلة. واللون الأزرق يطغى. تفاصيل كثيرة هنا باللون الأزرق الذي هو امتداد للسماء والبحر. شاطئ «تحت الريح» يطغى عليه الطابع السياحي، دواليب الهواء أصبح لها طابع سياحي.

 

آخر صناع دواليب الهواء، ذات الطابع السياحي التراثي في البلدة، هو المعلم رامح نخول. يبدو العم نخول حريصاً على توريث إبن شقيقه المهنة ويقول: «كنت أتألم في كل مرة أجول فيها في أرجاء أنفه ولا أجد دواليب هواء. إنها من تراثنا. أول دولاب صنعته لنفسي ونجحت. صنعت بعدها أكثر من أربعين دولاباً جديداً، بوزن 150 كيلوغراماً للدولاب الواحد، وبسعر الف دولار تقريباً. أنفه لن تكون أنفه التاريخ والتراث والبحر والملح من دون دواليبها».

 

دواليب أنفه كانت أيام زمان «مدروزة» على طول الشاطئ، مصنوعة بلا محركات، بشكلٍ صديق مئة في المئة للبيئة. اليوم عادت الدواليب لتبرز مع بعض التغييرات والهدف منها جمالي سياحي هذه المرة أكثر مما هو عملي.

 

نعود الى الشاطئ. أصحاب الملاحات الجدد شباب وشابات وهذا جميل. التراث يصمد على أيدي – وبأفكار- الشباب. مالك إحدى الملاحات أنشأ في جوارها ما يشبه مركز سبا. أفكار الشباب والشابات كثيرة في بقعة تجاور البحر وأثرى الملح معالمها. الآن مع الملح الخشن وزهرة الملح باتت أنفه تنتج الملح مع منكهات والملح الخاص بالمواد التجميلية الغني بالماغنيسيوم والبوتاسيوم والحديد والسولفات وغيرها من مواد مفيدة للمفاصل والعظام والغدة والقلب.

 

فلننسَ الحرّ والقلق والمشاريع التي تركب غصبا عن إرادة الناس والسياسات الملبدة وأحداث عين الحلوة وحاكمية مصرف لبنان والقصر الجمهوري الشاغر والأسعار المحلقة والملح المصري الذي يطغى على الأسواق اللبنانية… ولنعش الصيف والبحر والشمس والحياة… نمسك كمشة ملح خشن فيلمع ذهبا بين أصابعنا. ثمة ذهب لا نعيره إهتماماً في بلادنا. ملح انفه ذهب يستعيد رونقه بعد إهمال. ننظر في الأرجاء، ثمة أقنية محفورة في الصخور كانت المياه تجر عبرها الى جران الملح. رأس الملاليح تغور في التاريخ وتمتلئ بالآثار. كل التفاصيل في المحيط يروي قصة حقبة تاريخية وحرفة يدوية.

 

نغادر أنفه مع ملحٍ يُملّح… وتمنٍّ: ليتكم ترشون من ملحها في كل مكان لأنه حيث يفتقد الملح لا تنفع البهارات.