IMLebanon

نزهة» الجيش شمالاً: مقاتلون ومتفرّجون وأكباش فداء

يكاد لا يُصدَّق أنّ «بُعبُع» الشمال انتهى بعمليتين، أمنية وعسكرية، محدودتين. هل يُعقل أن يُجهَض خطر «إمارة إسلامية» بهذه السهولة؟ من قاتل في هذه المواجهة ومن نأى بنفسه؟ هل استخدمت المجموعات المسلّحة كل قدراتها وفشلت، أم أنّ خطرها لا يزال كامناً كالجمر تحت الرماد؟

من يقرأ تقارير أجهزة الاستخبارات وتسريبات ضبّاطها، لن يُصدّق مُحصّلة المعركة الأخيرة في طرابلس والمنية. هذه التقارير تحدثت عن مئات من المقاتلين المسلّحين بأحدث الأسلحة، ينتظرون الساعة الصفر للتحرّك للإطباق على الشمال وتحويله إمارة إسلامية. ومنذ أشهر، لم تتوقّف الأجهزة الأمنية عن تسريب سيناريوهات على لسان مسؤولين رفيعين فيها، في مقدمهم قائد الجيش العماد جان قهوجي، تحدثوا فيها عن خطط لفصل الشمال وسيطرة المجموعات المسلّحة عليه، وجعله مفتوحاً من جهة البحر. وعزّز هذه الفرضية تلويح أمراء المجموعات المسلّحة باستعداد آلاف المقاتلين لنقل المعركة إلى قلب الضاحية، والوصول إلى العاصمة، وغيرها من عناوين كانت تقرع جرس الإنذار في الداخل اللبناني على المستويين الأمني والاجتماعي. علماً أن هذه المعلومات لم تكن حصراً لدى الأجهزة الأمنية المحلية، بل تداولتها أيضا أجهزة استخبارات دولية بوصفها أمراً واقعاً.

هل لدى هذه المجموعات المسلّحة فعلاً القدرة على قلب الطاولة في لبنان وإطاحة أجهزته الأمنية؟ محور هذا التساؤل بقي بلا جواب طوال الأشهر الماضية. لكن الوقائع الميدانية الأخيرة أظهرت أن أعداد المقاتلين الذين واجهوا الجيش في الشمال لا يتخطى العشرات في أحسن الأحوال (ينبغي التفريق بين المسلح الذي لا يصمد في المعركة والمقاتل الحقيقي الذي لا يتراجع). والمفاجأة أنّ أعداد المقاتلين الذين صمدوا حتى نهاية المعركة، لم تتجاوز العشرين في باب التبانة، وأقل منهم في الأسواق، بحسب مصادر المسلحين. وكان لافتاً أن الجيش لم يخسر أي عسكري في معركة باب التبّانة. أما في المنية، حيث بالكاد يبلغ عدد المقاتلين الفعليين في صفوف مجموعة الشيخ خالد حُبلص الثلاثين (من أصل نحو 200 حامل سلاح)، فقد خسر الجيش أحد عشر عسكرياً، بينهم ثلاثة ضباط. هناك كانت المواجهة الحقيقية مع مقاتلين مدّربين، علماً أن العدد الأكبر من العسكريين سقط في الكمائن. ولكن رغم كل الخسائر، لم يكن ما جرى أكثر من «نزهة» أمام التهويل الذي كان يُروّج له. صُوّرت طرابلس بأنّها معقل الإرهاب، فاشتعلت المعركة بغطاء سياسي نادر، بدا جلياً في مواقف تيار المستقبل واختفاء المحرضين على الجيش وتصفيق الإعلام السعودي للجيش للمضي قُدماً في عمليته. لماذا قررت السعودية تصفية هذه المجموعات في هذا التوقيت بالذات؟ هل لأن حجم هذه المجموعات الآخذ بالتنامي بدأ يهدد وجود المستقبل في الشمال؟ أم أنّ ما أُثير عن تورط النائب المستقبلي خالد الضاهر في تشجيع العسكريين على الانشقاق وغيرها من أمور عسكرية محتملة، يُحتّم التضحية بهذه المجموعات؟ لماذا لم يُلحظ أي دور للمستشار الأمني للرئيس سعد الحريري العقيد المتقاعد عميد حمود، وهو الذي كان له دور بارز في العديد من الاشتباكات التي شهدتها المدينة؟ هل كان شادي المولوي وأسامة منصور كبشي فداء عن الضاهر؟

المفارقة هذه المرة أن أي منطقة لم تنتفض لنصرة التبّانة «المحاصرة»، ولم تُحشد القوى أو تُستخدم غيرة الدين والفتوى الدينية للوقوف في وجه الجيش. هل كانت الأمور ستسير بهذه السلاسة لو ان مشايخ التبانة كأيمن خرما أو مازن محمد أو خالد السيد أو عمر عزيز ــ وهم ممن لهم كلمة مسموعة في التبانة ـــ أعلنوا الجهاد؟ هذه الدعوة، دعو كهذه، بحسب المصادر، كانت ستستنفر مئتي مسلح على الأقل. لماذا لم يحصل ذلك؟ ولماذا لم ينضم هؤلاء المسلحون الى المجموعات التي واجهت الجيش؟ أين هم الـ٣٠٠ مسلح الذين ذكرت التقارير الأمنية أنهم يؤلفون مجموعة يقودها حسام الصباغ؟ تكثرالأسئلة، لكن الإجابة بسيطة: «لم يكن هناك غطاء ديني من هيئة علماء المسلمين، ولا سياسي من الأحزاب البارزة في المدينة». توضح المصادر لـ «الاخبار» أن المشايخ لم يقفوا في صف شادي المولوي وأسامة منصور وعمر ميقاتي لأنّهم كانوا البادئين بالاعتداء على الجيش، ولكون المولوي كان من بادر إلى خطف العسكري، فاستجلب ردّ الجيش بعملية عسكرية. فالمجموعة التابعة للثلاثي المذكور هي التي استهدفت دورية الجيش على دوار أبو علي أولاً، غير أنّ الجيش لم يردّ، إلا بعد حادثة الاختطاف. أطبق الجيش حصاره على منطقة الأسواق، ثمّ دكّها بالأسلحة الثقيلة لإجبار المسلّحين على قبول أي تسوية تُعرض عليهم. الى ذلك، تشير المصادر إلى أنّ هؤلاء تجاوزوا كل الحدود في تصرفاتهم. ففي سابقة هي الأولى من نوعها، طرد منصور منذ نحو شهر الشيخ المتشدد كمال البستاني من مسجد عبدالله بن مسعود. والبستاني هو شقيق وليد البستاني، القيادي في «فتح الإسلام»، الذي أعدمه «الجيش الحر» في تلكلخ السورية في نيسان ٢٠١٢. فضلا عن الخوّات التي فرضتها هذه المجموعة بالقوة على تجار الأسواق بحجة حمايتهم، وغير ذلك من الممارسات بذريعة «تطبيق الشريعة». وازاء كل ذلك، تنامت مشاعر الرفض لتصرفاتهم، فغسل الجميع أيديهم منهم حتى بدوا غرباء عن المدينة.

الشيخ خالد السيد، أحد أبرز المشايخ في باب التبانة، قال لـ «الأخبار» إن «ظاهرة الخطر المتشدد مسرحية مركّبة ضُخّمت لقطف ثمارها». ووافق السيد الذي سبق أن تولى المفاوضات لتسليم مسجد عبدالله مسعود في التبانة الى المشايخ على أن «مجموعة منصور ـــ المولوي تجاوزت حدودها بمعايير السلطة»، مؤكداً أن التبّانة بأهلها كانت رافضة لتصرفاتهم. لكنه يتحدث عن «عتب على الدولة والجيش اللذين تعاملا بطريقة غير مقبولة مع هذه الحالة الشاذة»، لافتاً الى أن جميع الإصابات كانت في أوساط المدنيين بسبب استخدام الأسلحة الثقيلة من دون تمييز بينهم وبين المسلّحين.

ورغم أن «الأبطال في لبنان لا يموتون ولا يجري توقيفهم»، يستشرف أحد أبناء المدينة مصير الثلاثي المطلوب على الشكل الآتي: «قد يصدف أن يوقف المولوي على حاجز للتدخّل الأول، ومنصور على حاجز للواء ١١. أما الميقاتي، فقد يُصاب في اشتباك ما مع أحدهم في التبانة».

في الشمال، لا يموت «الأبطال» إلا نادراً. يُنحّى هؤلاء جانباً إلى أن تستدعي الحاجة استنفارهم من جديد. فيبقون جمراً تحت الرماد، يهدد بالاشتعال عند هبوب أي ريح.