دخَل موسوعة غينيس مرّتين ودمَج الفن بالبيئة
متسلحاً بدخوله موسوعة غينيس للأرقام القياسية بلوحاته الفسيفسائية العملاقة، يوجه الفنان التشكيلي بيار عبود رسالتين إلى الحكومة الجديدة الأولى ” تحفيز الشباب اللبناني على دمج الفن بالبيئة “، والثانية “إطلاق العنان للإبداع الكامن عند اللبناني بغض النظر عن طائفته وميوله ومنطقته” بعدما أثبت تميزه في أكثر من مجال، بُغية إظهار مواهبه في الفن والثقافة وغيرها، مؤكداً أن الكثير من الإبداعات لا تحتاج إلى الكثير من المال والوقت والشهرة.
ترجمة هذه الرسالة، بحسب عبود، فيها الكثير من التفاؤل والأمل بالغد، لأن هذا ما ينقص اللبناني اليوم، فصحيح أن البيئة مهمة والحضارة مهمة لكن يبقى السؤال: لماذا كل هذا التجاهل لطاقات الشباب اللبناني؟
لم يكن وارداً في حسابات عبود الذي يعمل في مجال الهندسة الداخلية، ويملك شركته الخاصة في الإمارات العربية المتحدة الطلب الذي تقدمت به مدينة “مصدر” في أبو ظبي، لتنفيذ أكبر لوحة فسيفسائية في العالم، من مواد قابلة لإعادة التدوير، ليدخل بذلك موسوعة غينيس للأرقام القياسية، لتنفيذه اللوحة بإبداع. ويبلغ حجم اللوحة 1150 متراً مربعاً، أي ما يعادل مساحة ملعبي كرة سلة، وقد استغرق تشكيلها شهراً كاملاً بمساعدة فريق عمل شارك في إنجازها، واستخدم فيها 90,500 من تلك المواد والتي شملت عبوات بلاستيكية ومعدنية، وعلب الكرتون، ومواد خشبيةً وأخرى من القماش.
غينيس من الضبية إلى أبو ظبي
وتهدف هذه اللوحة إلى تشجيع مواطني الإمارات وزائريها والمقيمين على أرضها، على تبني مبادرات مستدامة تجاه البيئة، وتحفيزهم على الحد من النفايات وإعادة تدويرها واستخدامها، كما وتُجسد مسيرة البلاد بين الماضي والحاضر، مُسلطةً الضوء على عدد من المعالم البارزة في إماراتها السبع، وقد تم كشف النقاب عنها رسمياً قبيل انعقاد أسبوع أبوظبي للاستدامة 2020 الذي نظمته المدينة في 11 كانون الثاني الفائت، وستبقى اللوحة 5 أشهر، ليتمكن الزوار من مشاهدتها من منطقة معدة لذلك، ليتم تدوير المواد المستخدمة فيها بعد ذلك.
وهذه هي المرة الثانية، التي يدخل فيها إبن مدينة جبيل “موسوعة غينيس” بعد تنفيذه مع متطوعين لوحة فسيفسائية ضخمة، في الواجهة البحرية لمنطقة الضبية، وعلى مساحة 990 متراً مربعاً في صيف العام 2018، متفوقاً على الرقم القياسي السابق المسجل باسم سويسرا (مساحة اللوحة 450 متراً مربعاً)، مستخدماً 10 آلاف قطعة من المواد القابلة للتدوير (كالزجاج والبلاستيك والألمنيوم). ويقول عبود في حديث لـ” نداء الوطن: “هذه اللوحة تعيدنا الى تاريخ لبنان التجاري، وتذكرنا بسفنه البحرية التي انفرد الفينيقيون بجولاتها في العالم، وهذه المشهدية التي تعكسها سفينتان لبنانيتان تصارعان الامواج والعواصف العاتية ما هي إلا دليل على صلابة لبنان في وجه الصراعات والحروب التي واجهته في فترات مختلفة، وبقي كالصخرة يقاوم من دون ملل”.
وانطلاقاً من كون الرسم والنحت يشكلان شغفه الحقيقي في الحياة، يشرح: “صراع السفينتين هذا يرمز إلى قدرة لبنان للنهوض مجدداً لمواجهة الصعاب في المجالات كافة، وأبرزها أبسط المقومات كقطاعي السير والبيئة والبنى التحتية(من ماء وكهرباء وهاتف)، فيما تمثل العصافير الثمانية عشر في اللوحة طوائف لبنان المتنوعة”.”الثورة أنثى”
والتغيير المنشود
ومع انطلاق ثورة 17 أوكتوبر في بلده الأم الذي غادره في العام 2005، تملك عبود الحماس لزيارته، خصوصاً بعدما شاهد العديد من المواهب التي تميز بها اللبنانيون، من شعار الثورة إلى الأغاني والمجسمات واللوحات الفنية والأناشيد، ما لبث هذا الشعور أن تحول إلى إنجاز يضاف إلى رصيده الفني وتحديداً في ساحة الشهداء، وفي ذلك يوضح “صممت مجسم الثورة أنثى، وهو عبارة عن إمرأة تحمل العلم اللبناني، تكريماً لدورها في الثورة، التي شاركت فيها بجرأة وبطريقة سلمية وحضارية وذكية، وأراهن عليها في استمرارية الثورة”، متوقفاً عند مشاهدته لزوجة الشهيد علاء أبو فخر وأولادها، ولافتاً إلى أنها استمرارية بأبعادها الثورية والبيئية والفنية والثقافية.
وتابع:” بالرغم من لومي لها على تأخرها في المشاركة بقوة، لكن لبنان بحاجة دائماً الى مواقفها وآرائها، ومن الخطأ إلحاق الأذى بها لأن احترامها واجب أينما وجدت”، موقفٌ تعزز لديه بعد أن لمس إعجاب المشاركين في الثورة، بتجسيده دور المرأة اللبنانية في تحقيق التغيير المنشود.
يشكل الرسم هواية عبود المفضلة منذ فترة دراسته الجامعية، فكان له العديد من الجداريات المتعددة القياسات ومن بينها جدارية لا تزال معروضة حتى اليوم في شارع “مونو” في الأشرفية، معتبراً أن “في إمكان المهندس أو الصحافي وحتى الأستاذ الجامعي أن يكون فناناً، وليس غريباً أن تتحول النفايات إلى قطعة فنية إذا ما عرفنا كيف نتعامل معها، وصولاً إلى إبراز أهميتها وتعزيز قيمتها، فنفحتها الفنية هي نفحة أمل للثورة ولاستمراريتها”.
وجه لبنان الجميل
واللافت أن عبود لم يلجأ إلى غسل أو تنظيف أي قطعة استخدمها من المواد القابلة للتدوير، كاشفاً عن شعور غريب انتابه خلال تنفيذه “لوحة الضبية” بعد رؤيته الكميات الهائلة من النفايات القذرة، لكن إيمانه بأنها ستدخل “موسوعة غينيس” وضع حداً لهذا الشعور إلى غير رجعة. هذا الشغف بدمج الفن بالبيئة، دفعه إلى تنظيم زياراته الى لبنان بفعل اهتمامه بأخبار الثورة، وما هي إلى أسابيع قليلة حتى قدم عبود مجسم “العائلة” لـ”حملة دفى” التي نظمتها إحدى مجموعات الثورة في 15 كانون الأول، “وهي تمثل العائلة اللبنانية والتي نزلت الى ساحات الثورة، بدم واحد وبعلم واحد، وحتى الفاسدون يهمني أن يدركوا أنهم ينتمون لهذه العائلة، وعليهم العودة إليها، أنتم ونحن واحد ويجب أن نعمل في اتجاه واحد”، يُشدد عبود.
ولم تغب عن بال عبود عروس الثورة طرابلس “كانت ثورتها بتاخد العقل” فجسدها بمجسم فني من المواد القابلة للتدوير والتي قام بجمعها من ساحة النور، وخصوصاً الزجاج ويضيف “هو يجسد حرفةً مهمة في طرابلس، أعجبت كثيراً بتفاعل الثوار وتعاونهم، لقد أثبت لهم أنه بإمكاننا أن نقدم وجه لبنان الجميل حتى ولو من النفايات”.
ويكشف عبود عن أنه بات بحوزته مشروع كبير ومتكامل، يشمل رزمة من الحلول العلمية للمشاكل البيئية اللبنانية كافة، ومنها تحويل العديد من المعالم الطبيعية المشوهة لسبب أو لآخر، والنفايات في لبنان، إلى أعمال فنية وبتكلفة تصل إلى ربع التكاليف التي سبق أن أعلنتها وزارة البيئة لكل مشكلة بيئية، مستدركاً “هي في جيبي إلى أن يرغب الوزير المعني في وضع يده في يدي لتطبيق هذه الأفكار بطريقة ذكية ومبتكرة، تثبت أنني والشباب اللبناني قادرون على تحويل بيئتنا إلى تحفة فنية، وإلى التأكيد مجدداً على أن لبنان بالفعل هو بلد الجمال.