في ذكرى الاستقلال قُبلة من الشعب إلى من قبّل العَلم القبلة الاولى… هو الذي زرع الرعب في نفوس قاتليه بسبب حيويته ووطنيته فقط… جمع الشباب حوله واستقطب أصحاب الكفاءات ودعا الى الوحدة والتضامن من اجل لبنان القوي فعلاً لا قولاً، وجدّد عهده للبنانيين للبقاء الى جانبهم حتى استعادة الحرّية والسيادة والاستقلال مهما كانت الكلفة… غير آبهٍ بكل اشكال التهديد والوعيد، مقدّماً حياته للوطن، مستعداً للشهادة مستسلماً للقدر، ورافضاً كل اشكال الحماية الأمنية المصطنعة والمواكب المموهة تاركاً مصيره لمشيئة الله.
مصادفة مجيدة أن تترافق ذكرى استشهاد الوزير بيار الجميل الـ13 والانتفاضة الشعبية اللبنانية في أوجها، كما دعا هو إليها في ذاك الوقت، وهي تنادي اليوم بالشعارات نفسها الذي عمل ونادى واستشهد في سبيلها حتى الرمق الاخير. يستذكر اللبنانيون اليوم هذه المحطة التي كرّست بيار الجميل رمزاً للثورة في عقول الاحرار وصورة خالدة على صخور نهر الكلب وضحكة واثقة على قبة ساعة جل الديب، رافضاً التزحزح ربما ليقينه انّه سيبقى العين الحارسة للثورة، وأنّ سنابل القمح التي زرعها ستغدو حصاداً ولو بعد حين. فأبى إلّا أن تكون ضحكته الواثقة شاهدة على الحدث.
يستذكر الرفاق بيار الجميل في ذكرى الاستقلال بنكهة خاصة هذا العام. فالانتفاضة الشعبية التي عَمّت لبنان على مساحته الشاملة، وعبرت شهرها الاول حافلة بالانتصارات، دفعتهم الى استذكار بيار، ولكم تمنّوا ان يكون بينهم، لأنّه الراعي للانتفاضة المماثلة منذ 13 عاماً.
عن النقاط المشتركة التي تجمع بين أهداف انتفاضة اليوم ودور الشباب فيها وما نادى به الشهيد بيار الجميل، يقول بعض من عرفه وشارك في الانتفاضة، انّ بيار الجميل من الشهداء الذين يصحّ فيهم القول انّهم شهداء أحياء، لأنّه بنتاجه ونضاله ما زال يتفاعل، واكثر شخص تنطبق عليه مواصفات الصدق والشفافية والعفوية والوطنية. تميّز بيار الجميل بقربه من جميع الناس، لأنّه كان صادقاً، ولم يكن لديه حسابات سياسية خاصة شخصية… فالشهيد بنى مملكته على رؤى وطنيه لأنّه كان يريد دولة مستقلة حرّة عادلة تلتزم القوانين… ويتابع الرفاق: «نحن على الارض رأينا كيف تجسّدت أفكاره في الإنتفاضة، لذلك بيار موجود اليوم في كل ساحة من الساحات، هو في طرابلس وقلبه في الذوق وروحه في الشمال وعينه على صور وصيدا وبيروت والبقاع وساحة الشهداء».
بيار الجميّل الذي علّمنا كيف نقبّل العلم، وكأننا نقبّل الحبيب القبلة الاولى… قال عنه رفاقه إنّه «موجود داخل قلوب الشباب وفي نداءات الانتفاضة، ولذلك هو ما زال حيّاً بيننا، وجسّد باستشهاده حالة توحيد الشهداء، فلم يعد شهداء لدى كل طائفة كما عهدنا في لبنان، لأنّ ثورة 14 آذار وحّدت دم الشهداء، فاختلط دم كمال جنبلاط ببيار الجميل ورفيق الحريري وجورج حاوي».
تعيد ثورة اليوم توحيد دماء الشهداء بعد توحّد اللبنانيين خارج القيد الطائفي والمناطقي والحزبي والحسابات السياسية الضيّقة، محققة حلم بيار الجميل، وكل شهيد مثل بيار الجميل يحقق حلمه من خلال ثورة 17 تشرين.
عن ملف التحقيق في جريمة اغتيال الشهيد، يقول زخيا الأشقر رئيس مصلحة الطلاب في حزب الكتائب لـ»الجمهورية»: «للأسف إنّ ملف بيار الجميل في التحقيق «فارغ»، واكبر تقصير للدولة اللبنانية هو بحق شهدائها الذين استشهدوا لأجلها ولأجل لبنان»… كاشفاً أنّه تعرّف عام 2000 الى الشهيد إثر عودته من فرنسا، عندما علم انّ بيار عاد منها ليعيد شمل محازبي الكتائب ومناصريهم وليعيد أمجاد الحزب، وكان يناضل ضد الاحتلال السوري، وخرق منفرداً الانتخابات النيابية عام 2000 وبعدها قام بزيارة عائلية لساحل علما، «وكان ممنوعاً علينا رفع أعلام حزبية، لأنّ المخابرات السورية كانت منتشرة بكثرة في المنطقة، فاكتفينا برفع العلم اللبناني وطبعنا أعلام حزب الكتائب على الجدران». وحين سألته إحدى السيدات ما الذي دفعك الى ترك فرنسا والعودة الى لبنان، ألم تتعلّم من استشهاد عمك بشير وابنته وأنسبائكم؟ أجابها: «هناك نوعان من البشر، المعطاء أي الذي يعطي والثاني الذي يأخذ. الثاني قد يأكل ويعيش بشكل جيد اكثر، ولكن الذي يعطي ينام مسروراً أكثر وضميره مرتاح، لأنّ فرح العطاء لا تضاهيه سعادة ورخاء».
ويضيف الأشقر، انّه «بعد هذا الكلام إختار العطاء وقرّر الانتساب الى حزب الكتائب، وما زال حتى اليوم».
وعن اللقاءات المجيدة أخبر زخيا «كنّا نجتمع بالسر عام 2004 وكانت لذة الاجتماعات انّه لم يكن لدينا وصول الى الإعلام الحديث ومواقع التواصل لأنّها لم تكن متوافرة. وكان نضالنا متعباً، لأنّه كان بمجهود شخصي وفردي، وكنّا على اتصال دائم بالشيخ بيار وكان يتابع تحركاتنا، وكان الاحتلال السوري تحدّياً بالنسبة لنا قبل التحرّر». اليوم نتذكر 9 آب 2001 عندما توجّه بيار الجميل الى قصر العدل ووقف مع المضطهدين لإطلاق سراحهم ووقف بوجه القمع، فخرق بحراكه الواقع، وكم كان الماضي القريب شبيهاً بيومنا هذا… لقد أرعب بيار السياسيين بحراكه الشجاع والايجابي، وكان بجولاته على الاقسام يضفي حالة إيجابية، لأنّ الناس كانت تتهافت لسماع خطابه المشوق وحديثه المقنع. كان يتكلّم عن لبنانه الجديد، واستطاع التجوال على 52 قسماً في اقل من شهر ونصف الشهر، وجال في لبنان من جنوبه الى شماله وبقاعه من دون ضجيج اعلامي، ولا نعلم كيف كانت الافواج تعلم بحضوره فتتهافت للقائه وسماع حديثه… وبعد كل لقاء يتهافت الشبان لتعبئة قسائم الانتساب الى حزب الكتائب بسبب تأثير خطابه على عقولهم وقلوبهم».
بتحبّ لبنان… حبّ صناعتو
مَن مِن اللبنانيين لا يستذكر خطة صناعة لبنان للـ 2010 وما زالوا حتى اليوم يرددون «بتحبّ لبنان حب صناعتو». امّا اليوم وفي خضم الثورة، تتراءى صورة بيار مخترقة الحشود التي رفعت فقط العلم اللبناني وكأنّه يقول لهم: أنا قائد الثورة الاول الذي طبع القبلة الاولى على أرزة العلم في عيد الاستقلال… وصلت قبلتكم الى قلبي… هي قبلة العلم الأولى التي طبعتها على علم لبنان… الأمانة الغالية التي إئتمنتكم عليها… فحفظتم الوصية.
«أشتاق الى تواضعك»
الكلمة اللافتة في قداس السنة، الذي أقيم عن راحة نفس الشهيد في كنيسة مار مخايل في بكفيا، كانت لنجل بيار الجميل، أمين. هذا الشاب الواعد المفعم بالعنفوان، فجاءت معبّرة مقتضبة، أعرب فيها عن شوقه لمبادىء والده وتطلعاته من أجل لبنان… كما اشتاق اليه اللبنانيون واشتاق لمن لم يُغره أي منصب، واشتاق لتواضعه ولمحبته للناس، وكم أحبّ استشهاده.
امين، إبن الشهيد بيار الجميل الذي قال لـ «الجمهورية» منذ 6 سنوات، انّ والده أحبّ لبنان حتى الشهادة، كشف لكل من اعتقد من اللبنانيين انّ شهادة والده بيار ذهبت سدىً بأنّهم مخطئون، لأنّه سيبقى الى الابد «قائدنا ورئيسنا وشهيد كل لبنان». وأجاب لكل من سأل انه لو كان والده بيار حياً ماذا كان فعل في الثورة: «لو كان موجوداً لَما كان للثورة من وجود ولكان «فخامة الرئيس بيار الجميل».
وفي وقت يبحث اليوم اللبنانيون عن قادة الثورة ويتساءلون من هو قائدها الأول، لا يفطنون الى من يرقص فرحاً في عليائه متشوقاً للإجابة: «أنا قائد الثورة وقبلة العلم الأولى».