كان اغتياله جزءاً من اغتيال وطن، تماماً كما كانت ازاحته عن الخارطة السياسية مقدمة للاستيلاء على الوطن. كان ثابتا صامدا مدافعاً عن الذين لا صوت لهم، ولهذا كان لا بد من تنفيذ حكم الاغتيال بحق هامات من هذا الوطن، وذلك ضمن مُخطط سياسي إقصائي، المُستهدف منه لبنان وقوى الاستقلال.
في الواحد والعشرين من تشرين الثاني العام 2006 وتحديداً عشية ذكرى الاستقلال، ترجّل ثلاثة مجهولين من سيّارة رباعية الدفع سوداء اللون في منطقة الجديدة في ضاحية بيروت الشمالية وأطلقوا رصاص غدرهم على شاب قيادي ينتمي بأفكاره وتطلعاته إلى أبناء جيل حوّل الخوف إلى إنتصار، كان في داخلها. في لحظة من الزمن، يُعلن عن الوزير بيار الجميل، شهيدا سادسا يسقط على طريق العبور إلى الدولة بعد الرئيس الشهيد رفيق الحريري والوزير باسل فليحان والصحافي سمير قصير و«أبو المقاومة» اللبنانية جورج حاوي والنائب الصحافي جبران تويني.
شاب جاء من بلاد الغربة القسرية ليسعى مع أبناء وطنه إلى بناء وطن جميل يكون على قدر آمال تطلعاتهم. حمل أحلاماً جديدة وبدأ بزرعها بين أبناء جيله. أراد لمّ شمل «الكتائب» وإعادة رصّ صفوفها وتنظيمها، فكانت القيامة بالجناحين الإسلامي والمسيحي. واجهته آلات الحقد، فكان لها ندّاً لا يكلّ ولا يهدأ. تهديدات في السرّ والعلن ومحاولات لإقصائه وإيقاف حلمه، لكن نظرة منه في عيون الاجيال الواعدة والاطفال الذين كانوا يهتفون للحرية في الساحات، كانت كافية لأن يتجاوز العقبات والحواجز والإصرار على السير مع رفاقه في النضال من كتائبيين وحزبيين واستقلاليين لبنانيين، للوصول الى ربيع العمر في السادس والعشرين من نيسان 2005 تاريخ انسحاب آخر عنصر من جيش النظام السوري من لبنان.
يوم استشهاد فتى «الكتائب»، خرجت الإستنكارات المنددة بالجريمة ووجّهت أصابع الإتهام إلى مجرم موصوف بارتكاب الجرائم. وكان أوّلهم مجلس الأمن الذي وصفها بـ«الإرهابية» وسُجل إجماع دولي ولبناني على المضي في اقرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مع التحذير من انعكاسات الجريمة على السلم الأهلي وهو ما كان يسعى اليه القاتل، لكن دم الشهيد بيار كان أكبر من الفتنة وأحرص على الإستقرار الأمني في البلد، وها هي المحكمة الدولية اليوم تقف على مسافة قريبة من القاتل الذي افتتح عهد الجرائم في لبنان بإنتظار الصوت الذي سيعلو في أرجاء القاعة ذات يوم مُنتظر.
في تلك الحقبة وعند وقوع أي انفجار، كان اللبنانيون يعلمون أن النظام السوري وعملاءه في لبنان، قد «اصطادوا» سياسياً «ثميناً» من قوى 14 آذار، لكن نظام القتل والاجرام خرج كعادته ليتفنّن بـ«فصاحته» متوجهاً بالاتهام إلى «العدو الذي يريد شراً بلبنان وسوريا ويعمل على مزيد من الانقسامات بين البلدين». لكن الحقيقة كانت تُلامس قلوب اللبنانيين قبل عقولهم وهي أن النظام السوري نفسه يُدرك كما العالم كله، بأنه لم يكن يوفّر فرصة وبسبل متنوعة للقضاء على الحركة الاستقلالية وإنهائها عبر مجموعة كبيرة من الضربات المتتالية للقضاء على فئة جهدت ليلاً ونهاراً لإخراج لبنان من تحت نير الوصاية بعد ثلاثين عاماً من حكم ظالم وقاتل ومستبد.
كعادته، كان والد شهيد لبنان وصاحب شعار «بتحب لبنان؟..حب صناعتو»، الرئيس امين الجميل كبيرا عندما دعا الى ضبط النفس والتعالي على الاحقاد اثر استشهاد بيار. كان يعرف تماما ان نجله دفع ثمن وقوفه مع اللبنانيين الشرفاء في معركة الاستقلال الثاني. وكان يعرف قبل كل ذلك ان بيار دفع ثمن استعادة لبنان لحزب الكتائب بعدما كانت اجهزة الوصاية تتلاعب بالحزب وبمصيره. لكن الوالد المفجوع برحيل «الحلم»، كان قد أدرك أن نجله فعل الكثير قبل الرحيل وعمل على تعبيد الطريق نحو الآخر. كان يُدرك أن نجله إنتفض مع أبناء الخط الوطني ليصرخوا بأعلى صوتهم «لا». أبناء هدموا الجدار الذي فصل بين أبناء الوطن الواحد لعقود من الزمن وكسروا حاجز الصمت وأيقظوا الكلمة من سباتها وأخرجوها من سجنها ليعود شعاع الحق والأمل إلى عيون الأطفال والعجائز ولتستمر الأحلام في ملامح الأجيال القادمة.
كتائبي يشبه العائلة بمفهوم جديد قادر على فتح الأبواب الموصدة، هكذا يصف أحد القادة الكتائبيين الشهيد بيار الجميّل، حيث كان يعتبر ان النقاش هو السبيل الوحيد لإقناع الآخرين، وجهات نظر تحتمل التغيير لكن الحفاظ يبقى على الأساسيات، وطن واحد، محرّر مستقل، قادر على الوقوف في أسوأ الظروف، وكذلك لكل أبنائه من شماله إلى جنوبه وبقاعه.
بيار مثّل جيل الشباب في عمله السياسي العام والحزبي، واستطاع بجهود جبارة أن يعيد التوازن إلى حزب الكتائب ويوحّده، لم يكن بالأمر السهل إعادة آل الجميل إلى بيت الصيفي بعد مدّ سيطرة الوصاية عليه، لكن فنّ التفاوض والمثابرة والقيادة الشابة لديه استطاعت تبديل الواقع، وفتح الباب مجدداً ليقف رفاق وأبناء وأحفاد بيار المؤسس تحت صورته الموضوعة في وسط صالة المركز.
يوم استشهاد بيار الجميل، كان الرئيس المُكلف سعد الحريري أول من نعى الجميل خلال لقائه وفوداً في قصر «قريطم». يومها بكى الحريري بحرقة على صديقه ورفيقه في النضال، وبعد أن أعلم الحضور بالمصاب، اتّهم سوريا بالضلوع في الاغتيال. وقال «يريدون قتل كل لبناني حر. بدأوا مسلسل الاغتيالات الذي وعدوا به».