ليست الخطة الإقتصادية والمالية للحكومة، الأولى من نوعها في تاريخ لبنان المعاصر، بل ثمة مشكلة في فائض الخطط التي تكتب وتكبّد الخزينة تكاليف مالية باهظة (كخطة “ماكينزي” الأخيرة التي دفع لبنان 1,5 مليون دولار ثمناً لها ولم تتم الإستفادة منها)، بل المشكلة الحقيقية دائماً ترتبط بالتطبيق. ولعل الأمر ذاته ينسحب على القوانين والتشريعات، إذ لدى لبنان أفضلها في عدد كبير من المجالات، ولكن الإشكالية في تنفيذها.
وفي هذا المجال، من الممكن التذكير بفهرس الدراسات للقطاع العام الذي وضعه الوزير السابق فؤاد السعد عندما تولى حقيبة التنمية الإدارية، وجمع شمل وفهرسة الدراسات والخطط التي وضعت في مختلف الوزارات وإدارات القطاع العام منذ سنوات لغاية اليوم وقد ناهزت الآلاف، ووصل عدد صفحات الفهرس (وليس الدراسات) إلى مئات الصفحات!
لذلك، القضية واضحة. التطبيق ثم التطبيق ثم التطبيق. إلا أن هذا لا يلغي طبعاً ضرورة مناقشة الخطة بمكوناتها وعناصرها المختلفة لا سيما أنها وضعت من قبل إختصاصيين في المجالين المالي والمصرفي، ولم يشارك في صياغتها أي من الهيئات الفاعلة الممثلة لمكونات المجتمع الإقتصادي اللبناني، وأقله المجلس الاقتصادي الإجتماعي الذي يضم تحت سقفه ممثلين عن مختلف شرائح الإنتاج والدورة الإقتصادية، بالإضافة إلى الخبراء الإقتصاديين الذين يتمتعون بمعرفة عميقة للأبعاد الإجتماعية والمعيشية للخطط الإقتصادية والمالية، التي سوف تترك تداعيات هائلة على مختلف المستويات.
ينطوي التفاوض مع صندوق النقد الدولي على مخاطر ومحاذير هامة، إذ سيتمخّض عنه عملياً رسم سياسة لبنان الإقتصادية والمالية لسنوات إلى الأمام، بما يعنيه ذلك من إعادة رسم للأولويات الإجتماعية والمعيشية ومن إنعكاس على صعيد التنمية ومكافحة الفقر والبطالة والسياسات الأخرى، التي تتصل مباشرة بالوظيفة الإجتماعية للدولة.
صحيح أن أنصار الرأسمالية والنيوليبرالية حول العالم يفاخرون بانتصار نموذجهم الإقتصادي مقابل انهيار وتقهقر النماذج المقابلة، ولكن الصحيح أيضاً أن النموذج الرأسمالي لم يوفق في تحقيق الحد الادنى من العدالة الإجتماعية، فلا يزال في قلب الولايات المتحدة الأميركية نفسها مئات الآلاف ممن هم خارج التغطية الصحية فضلاً عن آلاف المشردين والفقراء. في حين شهدت بعض دول أوروبا الغربية التي اعتمدت نماذج الديموقراطية الإشتراكية نجاحات باهرة في المجالات الإجتماعية والصحية والإنسانية، والسبب الرئيسي هو الحفاظ على دور الدولة في واجباتها الإجتماعية.
واضحٌ من الخطة أن الحكومة قد تخصص جزءاً كبيراً من التدفقات المالية من صندوق النقد الدولي وهيئات التمويل الدولية، إلى تسديد الخسائر في القطاع المصرفي وتمويل الإستيراد، وهذا يعني عملياً الإحجام عن تغذية النفقات الاستثمارية التي يحتاجها الإقتصاد لإعادة تفعيل العجلة ودورانها، ولخلق فرص عمل جديدة بعد أن بلغت نسبة البطالة مستويات غير مسبوقة.
ختاماً، إن إغفال الجوانب الإجتماعية من الخطة، وتالياً من المساعدات المرتقبة يطرح تساؤلات جدية عن مآلاتها المنتظرة، على ضوء الإنهيار السريع الذي شهده الإقتصاد اللبناني خلال الأشهر القليلة الماضية والذي بات من الواضح أن وضع حدٍ له ليس بالمسألة السهلة، وليس الغلاء الفاحش للأسعار وفقدان العملة الأجنبية من الاسواق في إقتصاد مدولر بنسب مرتفعة، إلاّ بعض وجوه هذا التدهور المريع على مختلف المستويات!
والآتي أعظم! للأسف!