يوم نزلَ مواطنو عرسال إلى ساحات «14 آذار»، لم يعرفوا أنّ بلدتهم بعد سنوات قليلة ستصبح، بفعل الحرب السورية، رقماً صعباً على خريطة الاهتمام الإقليمي والدولي، بعدما حاولت مجموعات «النصرة» و«داعش» تحويلها إلى نواة لمخطّطهم التوسّعي في لبنان، بفِعل تواجدِ عشرات آلاف اللاجئين السوريين الموزّعين بين المخيّمات داخل البلدة وفي جرودها.
جرودٌ حوّلتها التطوّرات الميدانية السوريّة والضغط الذي مارسه الجيش السوري الى مركز تجمّع «إرهابي» محاصَر، حاوَل التسلل نحو الداخل اللبناني عبر الخاصرة العرسالية الرخوة، التي وَجد فيها منفذاً يؤمّن له حاجاته اللوجستية، إلى أن وقع الصدام الأول مع الجيش والذي أدّى الى استشهاد الرائد بيار بشعلاني والمؤهل أوّل زهرمان، بغطاء من بعض فعاليات البلدة.
أمرٌ تعاملت معه قيادة الجيش بحنكة ومسؤولية، تاركةً المجال أمام الأبناء الضالين للعودة الى حضن الدولة اللبنانية، غير أنّ رهانها فشل أمام المصالح الشخصية لتلك الجماعة، فكانت معركة آب 2014 التي حاولت فيها التنظيمات المسلّحة قلبَ المعادلات وإيجاد توازنات جديدة تطيح بالأمن اللبناني الداخلي. محاولةٌ لم تكن منفصلة عن الهدف الأساس الذي لخّصه قائد الجيش العماد جان قهوجي في حديثه الى اللبنانيين بعد ساعات من اندلاع المعركة بـ«سعي المسلحين لتأمين منفذ بحري على المتوسط عبر تمدّدِهم من عرسال نحو الشمال، وبالتحديد طرابلس».
«حلم شمالي» يصرّ «داعش» على تحقيقه، حيث يشير مصدر عسكري لـ«الجمهورية» الى توافر معطيات ومعلومات عن مخطط متجدّد لإقامة إمارة في الشمال تبدأ بفتح جبهة حمص في الداخل السوري، تزامناً مع هجوم من القلمون لفتح الطريق باتّجاه طرابلس.
تحت هذه المعطيات تندرج عمليات الكشف الدوري عن نقل «أسلحة نوعية» لتخزينها في الشمال استعداداً للعملية الكبرى، عملية تفترض بحسب المخططين لها، والكلام للمصدر العسكري، «هزَّ الأمن» عبر عمليات إرهابية في الداخل وعلى الحدود الشرقية، وخصوصاً في عرسال.
عرسال التي رُسِم لها أن تكون في غير حضنِ الدولة قبل أن تنتفض في انتخاباتها البلدية الأخيرة على واقع محاولات التعبئة ضدّ الجيش واستثمار وضع النازحين السوريين لتحقيق مآرب شخصية، كانت النتيجة عودة البلدة الى انتمائها الوطني وإلى حضن الجيش، لافظةً بعضَ المرتدّين.
عودةٌ كرّسَها رئيس البلدية الجديد في مطالبته بنشر الجيش داخل البلدة، وزيارته لقائد الجيش على رأس وفد من أبناء البلدة، حيث سَمع من العماد جان قهوجي حرصَ الجيش على أهالي عرسال الذين هم أبناء المؤسسة، مؤكداً حصريّة دور الجيش في تأمين الأمن وضبط الأوضاع داخل البلدة، مع الأخذ بالاعتبار واقع النازحين الإنساني.
أمرٌ أخرجَ، على ما يبدو، المتضررين عن صوابهم، دافعاً بهم الى تنفيذ سلسلة عمليات ومحاولات اغتيال وخطف ضد أشخاص تضمّنتهم لائحة اغتيالات على رأسها «رئيس البلدية الحالي والمخاتير الذين ينتهجون خيار الدولة والشرعية، والذين تجرّأوا على الوقوف في وجه مصطفى وعلي الحجيري، والإعلان صراحة أن «عرسال ترحّب بالنازحين وترفض الإرهابيين».
وبحسب مصدر أمني لـ«الجمهورية»، فإنّ اللائحة تضمّ 7 أسماء لبنانية و3 سوريّة، من بينها المختارمحمد علولي الراقد في مستشفى دار الأمل الجامعي، بعد أن شاء القدر أن تصيبَه رصاصة في خده بدل رأسِه، في محاولة اغتياله الفاشلة قرب منزله في حيّ المعيصرة جنوب البلدة.
وتؤكّد جدّية هذه اللائحة، التهديدات التي تلقّاها رئيس البلدية من أحد الأشخاص، والتي ادّعى فيها أنّه من الدولة الإسلامية، محمّلاً إيّاه تداعيات
المطالبة بدخول الجيش الى البلدة.
ويشير المصدر العسكري الى أنّ نتائج اجتماع اليرزة لم تتأخّر في الظهور، إذ باشرَت وحدات الجيش تنفيذَ تدابير شاملة وواسعة النطاق، مِن دوريات مؤللة وراجلة داخل البلدة وفي أحيائها وعند المخيّمات، وكذلك اتُّخِذت تدابير واسعة النطاق في «وادي الأرنب»، «وادي الحصن»، «وادي عطا»، و«وادي الرعيان»، تزامناً مع إقفال عدد من المعابر غير الشرعية عند الحدود.
المصدر الذي ردّ على المتطاولين والمشكّكين بدور الجيش وتعاطيه مع البلدة، جزَم بأن لا وجود لأمراء أو مسلّحين لـ«داعش» و«النصرة» داخل عرسال الخاضعة بكاملها لسيطرة الجيش، متحدّثاً عن تردّدِ بعضهم الى مخيّمات اللاجئين التي تشهد مداهمات دورية للجيش بحثاً عن مطلوبين.
وفي هذا الإطار، أكد المصدر أنّ الجيش نجح في فرض إيقاعه على تحرّكات المسلحين بعد نجاحه في شلّ حركتهم العسكرية عبر عمليات القصف اليومية التي تستهدف تجمّعاتهم، وفقاً لمعطياته الدقيقة التي يؤمّنها الرصدان الجوّي والبرّي على مدار الساعة، ما شدَّ الخناق على تلك الجماعات، متحدّثاً في هذا الإطار عن نجاح الجيش في تنفيذ عمليات أمنية نوعية لم يكن آخرها مقتل فايز شعلان «أبو الفوز»، وشدّد على أنّ الوضع الأمني في عرسال ومحيطها بات يختلف عن السابق، وأنّ الأمور ذاهبة نحو مزيد من الارتياح، لافتاً الى أنّ كلّ الإرهابيين الذين شاركوا في اعتداءات ضد الجيش أو في استهداف المواطنين، سيُلاحقون وسيُساقون أمام المحاكم المختصة كخيار أوّل، وأنّ خطة الجيش تقوم على فصل جرود البلدة عن داخلها.
تَجدر الإشارة الى أنّ العمليات النوعية التي نفّذتها وحدات الجيش حازَت على اهتمام وتقدير مصادر ديبلوماسية غربية، أشادت بدقّة التنفيذ وحرفيته، وفي سياق مجموعة العمليات التي يحضّر لها الجيش، كان بالأمس نجاح جديد له باستدراج أحد أكبر إرهابيّي جبهة النصرة رضوان شرف، إلى حاجز وادي حميد وتوقيفه، بعد عمليات رصد ومتابعة حثيثة منذ مدة، أثناء تهريب شخص لبناني له إلى الداخل اللبناني.
لقد أثبتَت زيارة الوفد العرسالي إلى اليرزة خيارَ البلدة في الوقوف إلى جانب الدولة والجيش، مثبتةً مرّةً جديدة انتماءَها اللبناني، ووعيَ أهلها إلى أنّه عندما تأتي التسويات الكبرى، من المؤكّد أنّ عرسال لن تكون إلّا لبنانية.. لبنانية.. لبنانية..