يقول العارفون إنّ الانهيار الذي يتمرّغ فيه لبنان لن ينتهي، مهما طال أمده، قبل أن تتحقّق الغايات المنشودة منه. فالانهيار لم يقع عبثاً، وتوقيته مدروس بدقّة.
في مطلع التسعينات من القرن الفائت، جاء إلى لبنان رجل طموح يدعى رفيق الحريري، بعد رحلة أعمال مثيرة بدأها من المملكة العربية السعودية وامتدت لتشمل الكثير من البقع في العالم.
كان الحريري قد نجح في التوسط مع القوى النافذة محلياً وخارجياً، فولدت في العام 1989 تسوية الطائف التي أنهت الحرب في لبنان، وأرست مساراً كان مخطّطاً له أن يقود إلى ما يمكن تسميته «الجمهورية الثانية»، تقوم على أنقاض «جمهورية أولى» تأسست في العام 1943، وباتت عملياً من الماضي.
بدا الحريري مقتنعاً بأنّ الشرق الأوسط مقبل خلال أعوام قليلة على تسويات كبرى ومعاهدات سلام بين المتصارعين، ورأى أنّ من الحكمة استباق التطورات والاستعداد لملاقاتها، بإطلاق مشاريع تتلاءم وطبيعة الدور الذي يضطلع به لبنان تقليدياً. ولذلك، ركّز الحريري خصوصاً على اقتصاد المال والخدمات.
لكن الطائف أجبر الحريري على إبرام صفقة مع دمشق، بتغطية عربية ودولية: تولّى هو شؤون المال، وهي تولّت شؤون السياسة والأمن. وفي تقديره أنّ هذه الصيغة كانت مناسبة له كي يكسب الوقت القصير، انتظاراً للتسويات التي انتظرها بفارغ الصبر. لكن هذه التسويات تأخّرت كثيراً. لقد ذهب الحريري ضحية الوقت.
اضطر الزعيم السنّي الصاعد إلى تركيب صيغة تتوزع فيها المكاسب على كل النافذين، في لبنان وخارجه، لكي يشعروا بالرضا ويتيحوا له أن يعمل. وقيل إنّ الفساد المقيم تقليدياً في كل شيء في لبنان، شهد وثبة هائلة في تلك المرحلة، توازياً مع الصعود الصاروخي للاقتصاد، ولو على أسس هشّة وشكلية، كما ظهر لاحقاً.
في رؤية رفيق الحريري أنّ في إمكان لبنان أن يفعّل دوره التقليدي كبوابة لا بديل منها بين العرب والعالم، وأن يربح الرهان على مستوى الشرق الأوسط، سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
باغتيال الحريري يمكن القول إنّ الطموح إلى استعادة هذا الدور التقليدي الذي لطالما تمتّع به لبنان، بين الشرق والغرب، ارتكازاً إلى ميزات جغرافية وديموغرافية، اغتيل أيضاً. وربما كان هذا ذلك واحداً من الأهداف المباشرة أو غير المباشرة لعملية الاغتيال.
فكل التحوّلات التي جرت منذ العام 2005 أظهرت أنّ لبنان يخسر دوره الريادي أكثر فأكثر، حتى بات اليوم مرتهناً تماماً لإرادات القوى الخارجية. واللافت هو سكوت بعض الداخل عن هذا الواقع، ما يمكن اعتباره تواطؤاً. وجاء الانهيار المالي في السنوات الأخيرة، وما أعقبه من كوارث، ليتسبب بتلاشي لبنان وخسارته كل مناعة أو قدرة على التصرّف بشكل مستقل وسيادي.
وللدلالة إلى هذا التلاشي، يمكن النظر إلى الطريقة الدونية التي يتعاطى بها الكثير من العرب مع لبنان، وإلى موقف الاتحاد الأوروبي الذي أراد فرض أمر واقع على لبنان يهدّد كيانه في ملف النازحين السوريين، وإلى الطريقة التي يتعاطى أركان اللجنة
الخماسية وطهران مع السياسيين وذوي السلطة.
ثمة جهات كثيرة تستفيد اليوم من خسارة لبنان دوره الإقليمي، أو هي تنتقم منه لأنّها متضرّرة من هذا الدور. وفي طليعة هذه الجهات إسرائيل طبعاً. ولكن أيضاً، في الصراع الذي تخوضه إيران لامتلاك زمام الأمور في لبنان، سيفقد لبنان شخصيته ودوره التقليدي بين العرب والعالم. وفي أي حال، إنّ أصدقاء لبنان العرب، في الخليج تحديداً، تمكنوا في فترة الغياب اللبناني من أخذ موقعه التقليدي.
فالإمارات العربية المتحدة استطاعت أن تكون صلة الوصل بين العرب والعالم، وأن تستقطب أكبر حشد غربي من الخبرات في مختلف المجالات وأن تقود حواراً بين الحضارات والأديان. وكذلك، تستعد المملكة العربية السعودية لأكبر عملية تطوير وإنماء وحداثة في ظلّ قيادتها الجديدة. وعلى رغم ذلك، يبذل العرب كل جهد لمساعدة لبنان على استعادة توازنه، بحسن نية بالتأكيد، فيما القوى السياسية في لبنان غارقة في صراعات يصعب تحديد طبيعتها. وثمة من يخشى أن يكون بعضها ضالعاً في عملية ممنهجة لإضعاف لبنان وتجريده من أي قدرة أو دور، لمصلحة قوى نافذة في الخارج.
وهذا الواقع يرجح المعلومات التي تردّدت دائماً، ومفادها أنّ القوى الخارجية كانت تدرك أنّ فساد السياسيين اللبنانيين سيقودهم إلى رهن البلد للخارج. وعلى رغم ذلك، بقي هؤلاء يحظون بالدعم والتمويل من الخارج. وكان ممكناً أن يقع الانهيار قبل 5 سنوات أو 10 سنوات. ولكن الانهيار وقع في خريف 2019، في غمرة الصراع بين الولايات المتحدة وإيران. ولبنان إحدى ساحاته.
واليوم، يبدو لبنان مقبلاً على محطات مفصلية في مسار انهياره المستمر منذ نحو 4 سنوات. فالقوى الإقليمية والدولية المستفيدة من هذا الانهيار لن تسمح بإخراج لبنان منه قبل أن يدفع الثمن المطلوب. وهنا تبدو المشكلة أكثر تعقيداً، لأنّ مصالح هذه القوى متضاربة. وسيكون مطلوباً أن تتوافق هي أولاً على الثمن الذي يجب أن يدفعه لبنان. ولذلك، قصة الانهيار معقّدة جداً ومريرة، واللبنانيون أنفسهم شركاء فيها.