العبوات البلاستيكية إلى التدوير… وهْم التوفير يشغل المستهلك
النوستالجيا. إحدى أنجع استراتيجيات التسويق والترويج الإعلاني. هكذا يُجمع خبراء الإعلانات ومبتكروها. شعارات إعلانية لا تغيب عن البال شكّلت نقاط تَقاطُع بين من سَبَق ومن لَحِق من أجيال. «شربا ردّا» مثال من عشرات – أو حتى مئات – الشعارات الراسخة في الأذهان. هي ملأت في يوم جميل مضى الأثير والطرقات. لكن معظمها استُبدِل بأخرى لاحقة تماشياً مع تطوّرات وأحداث. «شربا ردّا» عاد وأطلّ مؤخّراً. ومنه نعود لنسأل، بشيء من النوستالجيا تلك، عن حال الشعارات الإعلانية الرنّانة، للمشروبات وسواها، في زمن الإنهيار المدوّي.
ببعض التاريخ نبدأ. ذات يوم من العام 1767، اكتشف العالِم الإنكليزي، جوزيف برستلي، طريقة غَمَر من خلالها الماء بثاني أكسيد الكربون لتكوين مياه غازية. الهدف كان يومها طبيّاً بحتاً. واعتُمدت الطريقة تلك بداية من قِبَل الصيادلة كوصفات دوائية. إضافةُ المنكّهات إلى المياه الغازية جاءت لتخفّف من وطأة مذاقها. لكن الحكاية تحوّلت من مسألة طبيّة إلى ركن من أركان تكوين إمبراطوريات تجارية عديدة. هي إمبراطوريات المشروبات الغازية التي يقال إن الفضل في ظهور أول زجاجة منها يعود إلى برستلي نفسه. لكن هل كان عالِمنا مدركاً حينها لوقع اكتشافه على عالم المشروبات التجارية؟ أغلب الظن، لا. الحملات والحملات الإعلانية المضادة جزء أساسي من الصعود والمنافسة. وكان شكل القنينة الزجاجية من علائم الإنبهار.
للظروف أحكام
في القرن الماضي، زمن القروش المرتجعة ، وأيام كانت “الليرة بتحكي” كانت زجاجات البيرة والمشروبات الغازية ترتجع من الدكاكين لقاء رد بدل الرهن. ومع الوقت حل البلاستيك والمعدن الرقيق بديلاً للعبوات الزجاجية. بطلت “عادة” الرد. وصارت حتى القناني تذهب إلى النفايات. “شربا ردّا”. لِمَ غاب الشعار لسنوات قبل إعادة إطلاقه؟ المدير العام التنفيذي في شركة بيبسي كولا، إيلي بو عقل، عزا لـ”نداء الوطن” السبب في ذلك إلى تحسّن ملحوظ في القدرة الشرائية لدى المواطن اللبناني قبل الأزمة الأخيرة، ما حوّل خيار المستهلِك باتّجاه العبوات غير المرتجعة. ويضيف: “عادة هذا ما يحصل في جميع الأسواق العالمية وليس فقط في لبنان. لكن ما إن بدأت الأزمة تلوح في الأفق أواخر العام 2019 وراحت القدرة الشرائية تتقهقر شيئاً فشيئاً، حتى عاد المستهلِك ليبحث عن سبل التوفير. وهذا ما ساهم في إعادة إطلاق الحملة بنجاح مجدداً”.
عبوات بلاستيكية وأخرى زجاجية. نسأل عن طرق تجميع البلاستيكية منها وكيفية إعادة تدويرها. “نتعاون مع ثلاث منظمات غير حكومية مختصة في عملية التجميع وإعادة التدوير. كما نقدّم الدعم لهذه المنظمات التي تقوم بدورها بإنشاء مراكز تجميع للعبوات البلاستيكية”، كما يشرح بو عقل. فَمِن ضمن الحملات التشجيعية التي تديرها هذه المنظمات، يأتي تحفيز المستهلِك على تسليم العبوات البلاستيكية الفارغة مقابل نقاط يحصل عليها وتخوّله الشراء من محال السوبر ماركت. هذا إضافة إلى جهود مستمرة لتخفيف كمية البلاستيك التي تتكوّن منها العبوات حفاظاً على البيئة. فثقافة التدوير شبه غائبة في لبنان، على حدّ قول بو عقل. ومَن لا يوافقه الرأي في ذلك؟ فقد أشار إلى أن تحقيق لبنان أرقاماً عالية في عملية التدوير، من شأنه تشجيع المستثمرين على إنشاء معامل لاعادة تدوير وإنتاج العبوات البلاستيكية على غرار بلدان أخرى مثل مصر ودول الخليج وأوروبا. “لكننا متأخّرون هنا عن اللحاق بِرَكب هذا المشروع، للأسف. يهمّنا كثيراً التعاون مع القطاع العام لتدعيم وتحسين وزيادة نسبة تجميع البلاستيك”.
زجاج أو بلاستيك؟
ما هي إيجابيات اعتماد العبوات الزجاجية رغم أن تكلفتها تفوق بكثير تلك البلاستيكية؟ يجيب بو عقل مؤكّداً على مساهمة الزجاج في الحفاظ على البيئة وفي التخفيف من مشاكل وصعوبات تجميع وإعادة تدوير البلاستيك. هذا بالرغم من أن تكلفة إنتاج العبوات الزجاجية باهظة جداً إضافة إلى أن الزجاج يُصنَّع ويُستورَد من الخارج، كما أن كميات كبيرة منه تذهب هدراً نتيجة تعرّضه للكسر في حالات كثيرة. وبالنسبة للمستهلِك، تُعتبر تكلفة العبوة الزجاجية أقلّ من غيرها إذ هو يدفع فقط ثمن محتواها من الشراب موفّراً بذلك حوالى 25% من سعر العبوة البلاستيكية. وفي الإطار عينه يلفت بو عقل إلى أن مبيعات “شربا ردّا” تضاعفت في الآونة الأخيرة، ما يُعدّ دليلاً قاطعاً لا بل انعكاساً لضعف القدرة الشرائية لدى المواطنين. “لاحظنا مؤخّراً ازدياداً متواصلاً في نسبة المستهلِكين الذين يتخلّون عن العبوة البلاستيكية لصالح زجاجة “شربا ردّا”، وهذا أمر جيد بالنسبة إلينا لأن ذلك يساهم في الحفاظ على البيئة، والذي يعتبر من أولويات الشركة”.
لكن ماذا عن عملية التعقيم وإعادة التعبئة وهل هي آمنة بما يكفي في عالم ما بعد كورونا؟ “كشركة، نقوم باتباع المعايير العالمية طبقاً للمواصفات المعتمدة من شركة بيبسيكو العالمية، وتخضع عملية التعقيم لمراقبة إلكترونية بهدف ضمانة أعلى مستويات الطمأنينة خاصة في أزمنة الأوبئة. هذا مع الإشارة إلى أن الخطوط المستخدمة لناحية التعقيم والفرز وإعادة الإنتاج مكلفة جداً وتقدّر بملايين الدولارات”، كما يختم بو عقل.
ماذا عن قناني النبيذ؟
وقد يسأل أحد الباحثين عن سبل التوفير، من عشّاق النبيذ، لماذا لا تُسترد قناني الخمر، وتعاد تعبئتها؟
لتعبئة المشروبات الروحية حكاية أخرى. خبير مطّلع يخبرنا أن عملية غسل وتنظيف وتعقيم زجاجات النبيذ، مثلاً، مكلفة جداً. هذا عدا عن التلوّث الذي يلحق بالزجاجات الفارغة بمجرّد جمعها بعد الاستخدام في المنازل والمطاعم. وهكذا يكون شراء زجاجات جديدة أكثر ملاءمة على صعيد الكلفة والنظافة. مع الإشارة إلى أن صناعة النبيذ تتطلّب دقّة فائقة حيث أن دخول أي عامل خارجي على الخط يمكن أن يؤثّر – بعكس مشروبات أخرى – على المذاق. من هنا يجري الابتعاد عن فكرة إعادة التعبئة. لكن ذلك لا يمنع بعض المؤسّسات المصنّعة من جمع الزجاجات وإعادة تدويرها مساهمة في الحفاظ على البيئة. والحال أنه بدلاً من إعادة تعبئتها، يتمّ استخدامها في تصنيع الأكواب أو لأغراض الديكور والزينة على سبيل المثال.
مَن يعلن لِمَن؟
ننتقل إلى مدى تأثير الإعلانات على خيار المستهلِك مع رئيس نقابة الإعلان في لبنان، جورج جبور. فقد شدّد على أن الدعاية تحمل تأثيراً دائماً ومباشراً على ديناميات السوق، لكن التأثير يتعاظم أو يتضاءل تبعاً للمستهلِك أولاً والسوق ثانياً والظروف المحيطة ثالثاً. ويضيف: “نظراً لوضع البلد، فإن تأثير الإعلان محدود على المستهلِك حالياً، وذلك لعدّة أسباب. إذ عادة ما يُستخدم الإعلان لتسويق ماركة معيّنة، إلّا أن المشكلة تكمن في غياب المنتَج أساساً من السوق. قبلاً كنا نشاهد إعلانات لأصناف مختلفة من الحليب، مثلاً، أما اليوم فالحليب “مقطوع” بمعظم أنواعه. وإذا ما كان المستهلِك محظوظاً ووجد ضالّته، فقد لا تتوافر بالحجم المطلوب. وفي حال وُضع أمام خيارين، فهو سيتّجه حتماً إلى المنتج الأقلّ سعراً، وبالتالي تنتفي الحاجة إلى الدعاية والإعلان أصلاً”.
قبل 17 تشرين، كانت حركة الإعلانات ناشطة جداً، وإن خَفَت نجمها في بعض الوسائل الإعلامية حيث طغى التوجّه إلى الـ”أونلاين” الذي لا ينفك يستقطب الكثير من الاستثمار الإعلاني، وفق جبور. فقد وصل حجم إنفاق القطاع المصرفي الإعلاني إلى ما يقارب الـ40 مليون دولار سنوياً. في حين تخطى حجم استثمار السوق المحلية الـ189 مليون دولار في العام 2018، بحيث ساهمت الانتخابات النيابية في رفع حجم سوق الإعلانات في ذلك العام بما يقارب الـ30 مليون دولار. وفي العام 2019، راح الإنفاق الإعلاني يتدهور منذ شهر أيلول، بعد انطلاقة جيّدة، ليصل إلى أدنى مستوياته. فقد بلغ الاستثمار الإعلاني في أواخر ذلك العام حوالى 130 مليون دولار – أي بتراجع فاق 30% مقارنة مع العام الذي سبق – وهو رقم ملحوظ بلغة سوق الإعلانات. واستمرّت وتيرة التراجع بين العامين 2020 و2022 حتى أصبح لا يتخطى الـ40 مليون دولار اليوم. والانهيار متواصل.
إقناع قوي… وآخر “light”
مستوحياً من شعار “شربا ردّا”، تناول جبور إعلانات “بيبسي كولا” كنموذج. فقد رأى أن الشركة خفّفت من زخم إعلاناتها بعد انكفاء منافِستها المباشرة والتقليدية، شركة “كوكا كولا”، عن السوق. “في فترات سابقة، حين كانت “كوكا كولا” موجودة بقوّة، أي في التسعينات، كانت إعلانات الشركتين تتزاحم بضراوة على الشاشات. لكن لا يجب الخلط بين هذه الحالة وبين السوق الإعلاني بشكل عام”، كما يقول. فما يعزّز نظرية توجه المستهلِك بسبب الظروف إلى التوفير، هو ما قامت به “بيبسي كولا”، عبر إعادة إحياء حملة “شربا ردّا” من باب تذكير المستهلِك بأنها ما زالت تقدّم له حلولاً بديلة على الرغم من تراجع قدرته الشرائية.