IMLebanon

التلوث البلاستيكي: من البحر إلى السمك إلى المائدة

 

220 ألف طنّ من النفايات البلاستيكية تُرمى في “المتوسط سنوياً

 

على الرغم من وجود بعض المناطق الغنية بالمياه العذبة على طول شواطئه، إلّا أنّ البحر المتوسط يُعتبر أحد أكثر البحار تلوثاً على مستوى العالم. وإذ لا تزيد مساحته عن 1% من مجموع مساحة البحار ولا تتجدد مياهه إلا مرة واحدة كل 80 سنة تقريباً، فهو يحتوي على 11% من أنواع الكائنات البحرية في العالم. وتبلغ نسبة تلوثه 20% من نسبة التلوث البحري على الكرة الأرضية، حيث تحيط بحوضه شواطئ 22 دولة تلقي فيه سنوياً كميات هائلة من كافة أنواع الملوثات: 650 مليون طن من مياه الصرف الصحي، 129 ألف طن من الزيوت المعدنية، 60 ألف طن من الزئبق، 3800 طن من الرصاص و36 ألف طن من الفوسفات. أضف إلى ذلك التلوّث بالنفط الناتج عن حركة مرور السفن فيه والناقلات النفطية والحوادث البحرية وتفريغ الرواسب الزيتية وعمليات التنقيب، من دون أن ننسى التلوث الكيماوي الناتج عن وصول أكثر من 90 طناً من المبيدات العضوية المكلورة إلى شواطئه لا سيما في الجزء الغربي منه. ثم هناك التلوث الإشعاعي المتأتي من إنشاء محطات توليد الطاقة النووية على سواحله، ما يؤدي إلى تسرّب مادة التريتيوم ومواد مشعة أخرى. زد على ذلك المخلفات البلاستيكية التي تشكل 96% من القمامة الموجودة في المتوسط والتي تدخل خياشيم الأسماك ما يؤدي إلى خنقها وبالتالي موتها.

 

هذه الأسباب مجتمعة والكثير غيرها وضعت 14 دولة متوسطية على الأقل أمام خطر نسب مرتفعة من التلوّث ما يجعل السياحة فيها غير آمنة، إضافة إلى انتشار العدوى البكتيرية التي تهدّد حياة الانسان على سواحلها. كذلك، فمياه الصرف الصحي غير المعالجة في البحر والتي يترسب جزء كبير منها في القاع (الذي يعتبر البيئة الصالحة لتكاثر الكائنات) تؤثر بشكل مباشر على فقس بيض الأسماك وتهدد بالتالي الثروة السمكية برمتها.

 

وفي لبنان، على سبيل المثال، تم في العام 2017 التقاط صور لمطامر ومكبات تظهر مدى الإهمال في معالجة النفايات. إذ عدا عن اللون البنفسجي الذي صبغ مياه البحر، بيّنت الصور انتشار آلاف الأطنان من النفايات في محيط مركز المعالجة في مدينة صيدا. اليوم، وبعد مضي قرابة خمس سنوات، لا عجب في أن يكون اللون البنفسجي قد تحول إلى لون أكثر قتامة. ليس فقط نفايات، بل أيضاً مياه صرف صحي ومواد بلاستيكية تفعل فعلها هي الأخرى. لنركّز بعض الشيء على الأخيرة.

 

لم تعد النفايات مصدر تلوّث لشاطئ البحر المتوسط وحسب، إنما تعدّته لتلوّث مياهه أيضاً. ففي دراسة أجراها “المعهد الفرنسي لأبحاث استكشاف البحار” عام 2010، أثبتت النتائج أنّ النفايات التي ترمى على شواطئ البحار وتأكلها الأسماك، يمكن أن ينتهي بها الحال على مائدتنا. وخلصت الدراسة إلى أن المتوسط في خطر مشيرة إلى أنّه من المستحيل إعادته إلى ما كان عليه سابقاً. فأقصى ما يمكن فعله هو الحدّ من أسباب التلوث ووقف مصادره على اختلاف أنواعها.

 

كل ذلك يستدعي دق ناقوس الخطر: إمّا اتخاذ إجراءات جذرية للحدّ من التلوّث وإنقاذ ما تبقى من موارد المتوسط، أو أن نكون أمام كارثة بيئية بحرية قد تمتدّ آثارها لعقود. وللوقوف على مخاطر الأزمة التي تهدّد شواطئ المتوسط – ولبنان من بين المعنيين بها – وماهية السياسات الإنقاذية المتبعة، كان لـ”نداء الوطن” مشاركة في ندوة عبر تطبيق Zoomبعنوان: “هل تكفي إتفاقية برشلونة وبروتوكولاتها لمواجهة تلوّث النفايات البلاستيكية في البحر الأبيض المتوسط؟”. وقد نُظمت الندوة بمناسبة يوم المتوسط في 28 تشرين الثاني وفي إطار مشروع “بحر بلا بلاستيك” الممول من بعثة الاتحاد الاوروبي في لبنان والمنفذ من قبل التجمع اللبناني للبيئة والحركة البيئية اللبنانية.

 

افتتح الندوة السيد بول أبي راشد، رئيس الحركة البيئية اللبنانية، مستعرضاً لمحة موجزة عن مشروع “بحر بلا بلاستيك” الذي أطلق سنة 2019 بهدف مكافحة التلوّث البلاستيكي في المتوسط، وقد شاركت فيه أكثر من 60 جمعية وحركة بيئية في لبنان. وأكّد أبي راشد أنّ العودة إلى الطبيعة هي الحل الوحيد لتحدي كل ما يواجه لبنان اليوم من مصاعب اقتصادية واجتماعية، مضيفاً: “بُعدنا عن الطبيعة هو جزء من الكارثة التي يعيشها كوكب الأرض بشكل عام ولبنان بشكل خاص”. وفي حين شرح كيفية إتمام الأعمال المتعلقة بالمشروع، نوّه بتفاعل السكان على طول الساحل اللبناني من العبدة في عكار شمالاً وصولاً إلى صور جنوباً.

 

تخلّل الندوة أيضاً مداخلة للسيدة جوزيان يزبك، الخبيرة القانونية في البيئة والصحة العامة وممثلة المركز الدولي لقانون البيئة المقارن (CIDCE)في لبنان، أضاءت من خلالها على آلية العمل على إصدار القوانين المحلية من جهة، وعلى التوجيهات الأوروبية من جهة أخرى، حيث أن “القانون هو مرجع أساسي في النضال البيئي”. وتأسفت يزبك لعدم وجود قانون متخصص بالنفايات البلاستيكية في لبنان في حين أن ثمة قوانين لا بأس بعددها تتعلق بالنفايات عامة. إذ يعود أول قرار صادر في لبنان ويتعلق بالنفايات إلى العام 1920 بينما لم يتم وضع المرسوم الأخير المتعلق بفرز النفايات إلا سنة 2019. كما أضافت أن المشكلة في لبنان لا تكمن بالقوانين وإنما بتطبيقها وتحديثها كي لا تبقى “حبراً على ورق”. فإتفاقية حماية البحر المتوسط من التلوث (إتفاقية برشلونة) التي اعتُمدت سنة 1976، مثلاً، لم ينضم لبنان إلى نسخة العام 1995 منها سوى في العام 2008!

 

إتفاقية برشلونة تحتاج إلى تطبيق

 

تشكل الإتفاقية خطة عمل بيئية قانونية ملزمة متعددة الأطراف غرضها “منع التلوث في منطقة البحر المتوسط والتخفيف منه ومكافحته والقضاء عليه إلى أقصى مدى ممكن وحماية البيئة البحرية وصيانتها في تلك المنطقة وذلك للمساهمة في التنمية المستدامة”. أما بروتوكولاتها فسبعة، وهي:

 

1. بروتوكول إلقاء النفايات الذي يمنع تلويث السفن والطائرات للبحر الأبيض المتوسط.

 

2. بروتوكول الوقاية وحالات أخرى الذي يهدف إلى مكافحة التلوث الناتج عن تسرّب الزيوت والمواد الضارة الأخرى.

 

3. بروتوكول مصادر التلوث البرية الذي وضع خططاً لمعالجة الملوثات العضوية الثابتة وخفض الطلب على الأوكسجين الكيميائي الحيوي، كذلك خفض مدخلات الزئبق وإدارة القمامة البحرية والاستهلاك والإنتاج المستدامين في منطقة المتوسط.

 

4. البروتوكول المتعلق بالمناطق المتمتعة بحماية خاصة والتنوع البيولوجي الذي يدعو إلى حماية المناطق ذات القيمة الطبيعية أو الثقافية الخاصة وذلك من خلال إنشاء مناطق محمية خاصة.

 

5. بروتوكول المناطق الساحلية الذي يشمل كافة التدابير للحد من التلوث الناجم عن جميع مراحل الأنشطة البحرية من أجل التصدي لحوادث التلوث في عرض البحر.

 

6. بروتوكول النفايات الخطرة الذي يهدف إلى الحد من إنتاج النفايات الخطرة والقضاء عليها وبالتالي حماية صحة البشر والبيئة البحرية.

 

7. بروتوكول الإدارة الكاملة للمناطق الساحلية الذي يدعو جميع الأطراف إلى اتخاذ التدابير اللازمة لتعزيز التعاون الإقليمي من أجل تحقيق أهداف الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية.

 

مخاطر التلوث البلاستيكي بالأرقام وكيفية مواجهتها

 

بحسب “الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة” ودراسة منفصلة أجرتها يزبك، يبدو الواقع مخيفاً بالأرقام. فمن خلال الاطلاع على عيّنة منها، يتبين أن 220 ألف طن من النفايات البلاستيكية يتم التخلص منها في البحر المتوسط سنوياً (يُتوقّع أن يتخطى هذا الرقم 500 ألف طن سنوياً مطلع العام 2040)، في حين يساوي حجم النفايات التي تتدفق يومياً في البحر حجم 500 حاوية. وإضافة إلى وجود حوالى مليون طن من النفايات البلاستيكية المتراكمة فيه منذ عقود، ثمة 1.25 مليون جزء من الميكروبلاستيك لكل كيلومتر مربع من مساحة البحر. والنتيجة تظهر جلية في أن 77 من أصل 134 نوعاً من الحيوانات المتوسطية التي ابتلعت جزئيات بلاستيكية، هي حيوانات بحرية.

 

على ضوء ما تقدم، أي دور لإتفاقية برشلونة في معالجة النفايات على طول شواطئ المتوسط؟

 

عن هذا السؤال، أجاب البروفيسور ميشال بريور، رئيس مركزCIDCE، بأن النفايات البلاستيكية تشكل “قنبلة موقوتة” لا يكفي إدراج الحلول المتعلقة بها ضمن اتفاقيات وقوانين فقط، إنما على المجتمع المدني الضغط على الحكومات لتطبيقها من خلال وسائل الإعلام والصحف والمجلات، كذلك الحركات والجمعيات البيئية المختصة. ولفت إلى أنّ هذا الملف وصل إلى مراحل خطيرة تستدعي تبوء أصحاب اختصاص وخبرة مواقع المسؤولية بغية تطوير القوانين وتطبيقها بما يتلاءم مع مضمونها.

 

أمل لبنان كالعادة في المبادرات “غير الرسمية”

 

لا شك أن استرجاع النفايات، لا سيّما البلاستيكية منها، وإعادة تدويرها من شأنه تقليص فاتورة التلوث الباهظة والحدّ من أخطاره المحدقة بالبشر والثروة البيئية على حدّ سواء. والأفكار والمبادرات، “غير الرسمية” بسوادها الأعظم طبعاً في لبنان، دائماً موجودة. في هذا الإطار، تواصلنا مع رئيس جمعية الحروف، السيد يوسف متى، الذي يرتكز مشروع جمعيته على تدوير المواد البلاستيكية وإعادة استخدامها في صناعة أحجار البناء والأحجار المستعملة على الأرصفة. فالجمعية تقوم بتجميع البلاستيك من البلديات، النفايات المنتشرة على طول الشاطئ وحتى من جمعيات أخرى. ويتم بعدها تنظيف البلاستيك من كل الشوائب والأوساخ العالقة فيه قبل أن يدخل المرحلة الثانية من المعالجة وتقتضي تقطيع المواد البلاستيكية إلى قطع أصغر حجماً لا يتعدى طولها 30-40 سم. ثم يجري فرم القطع لتصبح شبيهة بالحصى فتخلط مع الترابة والرمل وتكبس لتصبح أحجاراً كاملة المواصفات تصلح للاستخدام في عمليات البناء. من ميزات هذا الحجر مقاومته للنار ووزنه الذي يقل بحوالى 20% عن الحجر العادي. لكن على الرغم من الاستحصال على براءة اختراع والشروع بالتطبيق العملي، أتى الانقطاع المنتظم والمتعاظم للتيار الكهربائي وغلاء أسعار المحروقات ليعرقل هذه الاندفاعة، شأنها في ذلك شأن معظم أوجه العجلة الاقتصادية المشلولة في البلد.

 

بالمحصلة وإذا كان من شبه المحال القضاء التام على ظاهرة التلوث البلاستيكي في البحر المتوسط عامة، فكيف الحال في لبنان الغارق أصلاً حتى أذنيه في شتى أنواع مصادر التلوث في ظل عدم تطبيق القوانين أو دعم مشاريع الحلول الواعدة. أما التحول إلى الاقتصاد “التدويري”، فسيبقى “يدور” حتى إشعار آخر في حلقة مفرغة. وإلى حينه، لنحذر أقله من البلاستيك المتدفق من أحشاء ثروتنا السمكية إلى أمعائنا.