جرّاحو التجميل يُرمّمون الأمل في النفوس قبل الوجوه
وفي اليوم التالي استفاقوا، انزاح هول الصدمة قليلاً عن صدورهم، تحسسوا أنفسهم: ما زالوا أحياء يرزقون لكن وجوههم واجسادهم ترزح تحت جراح تختبئ خلف ضمادات ثقيلة جائرة. هل تشوهت وجوههم كما تشوه وجه بيروت، هل انشقت في أجسادهم خطوط مبعثرة كطرقات بيروت الضائعة المعالم؟ هل ستبقى الجروح طعنات سكين تحفر في القلب مع كل نظرة؟ وكان القرار بتحدي الواقع والتغلّب عليه وتحويل الجراح حروفاً تصوغ قصة الألم بكلمات منمقة من دون أن تضع لها خاتمة.
هرعوا الى أطباء كانوا حتى الأمس القريب يبيعون وهم الجمال والشباب الدائم، فإذا بهم اليوم يوزعون الأمل مجاناً، يزرعونه على الوجوه المشوهة لينمو ويكبر ويرمم كل ما تحطم في النفوس من أحلام وأمان وفرح. إنهم أطباء التجميل والترميم الذين صاروا أطباء الوطن، يقحطون بمبضعهم عن الوجوه آثار الاستهتار المجرم ويخففون عن وجوه أبنائه وذاكراتهم تشوهات الجريمة المؤلمة.
الأولوية واحدة: تقطيب الجراح
رغم تمارين كثيرة تدربوا عليها في المستشفى لتنفيذ خطة طوارئ عند الحاجة، إلا أن شيئاً مما تعلموه لم يعدّهم لما سيواجهونه في ذاك اليوم المشؤوم. أطباء وممرضون واجهوا وبدون أي إنذار دفقاً بشرياً ينزف دماً وألماً، ويتنفس هلعاً وركاماً. خافوا، تضعضعوا، ارتبكوا أمام المشهد المرعب ثم استجمعوا رباطة جأشهم، وصار الواقع، على قساوته، حالة صحية يجب التعامل معها. نسيوا اختصاصاتهم الطبية المختلفة وهرعوا كلهم الى الطوارئ، تحولوا جراحين يحملون الإبر والخيطان ويخيطون جروحاً ما رأى بعضهم مثلها في حياته المهنية.
لا وقت للتفكير او التحليل ولا مجال للتردد والخوف فالجراح النازفة تكاد تتحول بحراً أحمر يدمي الأرض. الجرحى يملأون أروقة الطوارئ وأسرتها وباحاتها الخارجية وكل فسحة فيها… خطة الطوارئ ضاعت معالمها تداخلت خطواتها، وصارت الأولوية واحدة: تقطيب الجراح بعد تنظيفها ووقف نزيفها.
تجربته في ذلك اليوم المشؤوم الذي لم ير في حياته شيئاً يشبهها يرويها لنا د. رياض ابي صالح الاختصاصي في الجراحة التجميلية والترميمية في مستشفى بلفو قائلاً:
جرحى يتوافدون بالعشرات، يفترشون قسم الطوارئ، اجساد تغطيها الدماء تتوزع في انحائها جروح كثيرة لا تزال بقايا الزجاج المتطاير منغرزة في معظمها. جروح عميقة، قليلها سطحي، تحتاج الى معالجة فورية. بسرعة أوجدنا ما يشبه النظام وسط الأنين والصراخ والخوف. الإصابات في الوجه كثيرة حسبما رأيت، وكجراح ترميم وتجميل طلبت أن يرسلوا إلي المصابين في وجوههم أما إصابات اليدين والرجلين والجسم فلتحول الى اطباء آخرين. كان التحدي الكبير أمامي اعتماد القطب التجميلية مع السرعة المطلقة في العمل. عرفت منذ البداية أنها مرحلة مفصلية في حياة هؤلاء الجرحى، فإما أن يكون الجرح علامة صارخة في الوجه تذكرهم مع كل طلعة يوم بالحدث المأسوي الذي عاشوه أو تكون قطباً تمحو عن وجوههم آثار الجرح ولا تترك إلا ندبة بسيطة تزيلها الأيام. أدركت أن جرح الجلد على فظاعته ليس سوى انعكاس للجرح النفسي العميق والصدمة التي تعرّضوا لها، أردته الا يكون الشرارة التي توقد الصدمة في نفوسهم كلما نظروا إليه. د. نانسي معلوف زميلة لي، طبيبة أعصاب وقفت الى جانبي تعمل معي، ممرضون من حولي وحول الأطباء الزملاء يساعدون بكل ما أوتيوا به من خبرة وتمرس، وأفراد من قسم الصيدلة يؤمنون لنا المستلزمات والخيطان التجميلية المتوافرة في المستشفى.
الانتظار طويل أمام المصابين والجرحى لكن المدهش أن أحداً لم يتذمر أو يتشكّى بل كان الكل يتعاطف مع الكل. يتفهم المتعرّضون لإصابات طفيفة الوضع ويفسحون في المجال للحالات الأصعب أن تمر قبلهم وينتظرون دورهم بصبر ممزوج بالوجع. الحالات الدقيقة كثيرة، أحدهم كانت أذنه مقطوعة نصفين وكان علي العمل على إيقاف نزيفها وإعادة جمعها وترميمها بأفضل الطرق وإن يكن الترميم صعباً. ممثل شاب كان خائفاً أن تخلّف الجروح في وجهه آثاراً تدمّر مهنته ومستقبله الفني. وصبية تخبئ وجهها بيديها المدميتين، تسأل عن خطيبها ولا تريده أن يراها بهذا الشكل. اما أصعب الحالات يومها فكانت آخر مريضة رأيتها عند الساعة الثالثة بعد منتصف ليل الرابع من آب مع أمها وشقيقتها. كانت تقوم بتجربة ثوب زفافها في منطقة مار مخايل حين دوى الانفجار، الوالدة نجت بأعجوبة، الإشبينة أصيبت بجرح في الجبين والعروس بجرح في الرأس بعد أن تطاير الزجاج عليهن. عرفت أن علي أن اعتني بها أكثر من سواها ففرحها بعد اسبوعين ولا يمكن ترك ندوب غاشمة تنغص عليها فرحة حياتها، وتذكرها في كل لحظة انها كادت تفقد حلمها وحياتها واحباءها بلحظة. بالأمس عاينتها وغيرت الضمادة لجرحها وسوف يكون زفافها انتصاراً للحياة على الموت والألم رغم ندوب بسيطة ستبقى منقوشة في الذاكرة.
ترميم الأمل
شباب وصبايا معظمهم في أول العمر بين العشرينات والأربعينات مصابون في وجوههم قصدوا عيادات التجميل في اليوم الثاني لنكبة بيروت وما تلاه من ايام، يبحثون فيها عن شيء من الأمل، يعيد الى وجوههم ملامح مألوفة غابت بعدما خضعوا في طوارئ المستشفيات لتقطيب سريع يوم الانفجار لم يفهم حقهم في التقطيب. وقد روى أحد الأطباء في شهادة له عبر إحدى الإذاعات كيف أن الوقت لم يسمح للأطباء بأن يستخدموا حتى الإبر والخيطان لمعالجة الجروح، واضطروا لاستخدام الكبسون مع مسدسه الخاص لأنه اسرع ويتيح الانتقال من جريح الى آخر بدون تباطؤ. لذا كان اليوم التالي للانفجار وكأنه يوم يقظة فاستقبلت عيادات التجميل والترميم كمّاً من الناس تسنى لهم الوقت ان يعودوا الى منازلهم، او ما تبقى منها، وينظروا الى انفسهم بالمرآة ويلمسوا بالعين واليد ما خلفه الإستهتار المجرم على وجوههم ونفوسهم.
لم يشكُ أحد من الذين استقبلهم د.رياض في عيادته بدءاً من اليوم التالي من عمل طبيب عالجه على جناح السرعة، أو من قطب تلقاها في العتمة عند باب الطوارئ، بل كانوا كلهم شاكرين لربهم أنهم ما زالوا أحياء لا بل مستغربين كيف بقيوا احياء. أدركوا جيداً أن السرعة في العمل وإنقاذ الأرواح جاءت على حساب التجميل الذي لم يخطر ببال أحد، لم يتذمروا بل اتوا لترميم ما يمكن ترميمه.
تجاه هذه الصور التي تتخطى المنطق الإنساني يُطرح سؤال هل هي حقاً الفرحة بالبقاء على قيد الحياة، أم أنها حالة نكران يعيشها المصابون الذين لم يفيقوا من الصدمة بعد ولم يعوا تشوهاتهم؟
اليوم التالي لم يكن اسهل من الأول يتابع د. أبي صالح إذ هنا أيضاً كان عامل الوقت اساسياً، فالترميم يبقى ممكناً في الساعات الـ 24 الى 48 التي تلي العملية الأولى، أما إذا تخطى الجرح تلك المدة القصيرة وترك تشوهاً في الوجه فلا يعود بالإمكان ترميمه إلا بعد ثلاثة الى ستة اشهر. كان همنا منصباً على التأكد أولاً من عدم وجود التهابات في الجروح ومن ثم على تحسين القطب وتجميلها حتى لا تترك اثراً في الوجه. لم تكن تلك إلا محاولات بسيطة لبلسمة الجرح الخارجي علها تمتد الى الجرح الأعمق وتخفف ولو قليلاً من وطأته.
استمر الضغط على أطباء الترميم الذين عرض العديد منهم خدماته مجاناً، وارتفعت أصواتهم تستغيث وتطالب بالإمدادات الطبية من شاش ومعقمات ومضادات للالتهابات وتجنّدت بعض الجمعيات والشباب لتأمين هذه المستلزمات ليتمكن الأطباء من معالجة وترميم جروح أكبر عدد ممكن من المصابين. ولم يكن لبنان وحده من يعمل على ترميم مآسيه، إذ أمام هول بعض الصور تبرع اطباء من لبنانيي الانتشار او اطباء عرب بمعالجة الجرحى مجاناً. وكانت صورة الطفلة يارا بجروحها المحفورة في وجهها قد اجتاحت مواقع التواصل ونقشت هولها في قلوب الناس، وهو ما دفع بالعديد من أطباء التجميل لعرض المساعدة مجاناً والتكفل بالعمل على محو آثار الجريمة عن وجه الطفولة وترميم ما يمكن من أحلامها.
أهوال نقشت في النفوس قبل الوجوه
جيهان صبية قابلناها في عيادة التجميل، على وجهها تنتشر الضمادات الصغيرة، تنتظر دورها بصمت حزين. عجقة العيادة لا تشبه عجقتها السابقة، ونساؤها لسن كأولئك النسوة اللواتي احترفن التجميل. هنا الوجوه المضمدة تنسلّ بهدوء نحو غرفة الطبيب من دون أحاديث جانبية. لحقنا بجيهان نسألها عن يوم الانفجار، فروت لنا كيف وصلت الى طوارئ المستشفى وكان المصابون بالمئات وكلهم يحمدون الرب على بقائهم أحياء. وجهي كان بحاجة الى الكثير من القطب، تقول، فسألني احدهم إن كنت استطيع الانتظار الى اليوم التالي وإلا ستكون القطب سميكة وبارزة. بلحظة أفقت من صدمتي وقلت في نفسي: إنه وجهي لا استطيع تركه هكذا،لا أريد قطبأ كبيرة تترك آثاراً تكون تذكيراً يومياً بما حدث اليوم. سأنتظر وسأقصد طبيب تجميل ليعالج وجهي عله بذلك يخفف شيئاً ولو يسيراً من حقدي ونقمتي وغضبي على ما حدث. جروح يديّ ورجليّ ستبقى على حالها أما وجهي فلم أكن اريد له أن يتشوه. لأن تشوهه سيزيد نقمتي على المسؤولين وسيشعرني طوال العمر بعجزي عن التحكم بحياتي ومستقبلي. هو تشويه رمي علي قسراً رغم كل الحذر الذي كنت اعتمده في حياتي اليومية، وأفقدني قدرتي على التحكم بحياتي، لكنني لا أريد له ان يتحكم بي بل سأسيطر عليه وأظهر للجميع أن ثمة أملاً بأن تعود الحياة الى ما كانت عليه رغم كل شيء.
حين جئت الى العيادة كان الطبيب في منتهى الهدوء أتم عمله على وقع موسيقى هادئة على الرغم من أهوال ما رآه في اليوم السابق. معه شعرت بالأمان وبأن هذه ليست نهاية الدنيا وأن كل شيء قابل للتصحيح وكان يمكن للأمور أن تكون اسوأ بكثير. إرتحت للجانب الإنساني الذي شعرت به من قبل د. رياض وللكفاءة التي خففت عني الخوف والالم ومنحتني الأمل بأن أنسى يوماً ربما ما حصل.
سينتيا التي قابلناها خارج العيادة تبدو قوية تتحامل على نفسها وجراحها. لا تريد أن تظهر ضعفها وانهزامها بل تود أن تظهر أمام كل من يعرفها بالصورة التي عرفوها بها بأسرع وقت ممكن. كبرياؤها لم يسمح لها بأن يراها الأحباء والمعارف على غير ما هي عليه والتجميل لم يكن خياراً بل ضرورة حتى لا تفقد هويتها. إذا تغير وجهي تغيرت هويتي، تقول، ولن اسمح ان تتغير هويتي بسبب أمر فرض علي من دون إرادتي. ناقمة هي الى أبعد حد، لكنها مصممة على التغلب على أذى ألمّ بها من نظام باتت تحتقره وتتمنى موته، لا تريد ان يبقى من الأذى الذي فرض عليها أي ذكرى على وجهها تشعل نقمتها من جديد كلما نظرت إليها.
ابراهيم الذي رأيناه لاحقاً ما زال تائهاً مشتتاً لم يخرج من الصدمة بعد لكنه لم يعد يطيق أن يخفف عنه الناس أو أن يقولوا: الحمد لله على سلامتك، أنظر الى سواك، حالك أفضل من حالهم. بحرقة يقول: أكيد انني ممتن لكوني على قيد الحياة وأكيد وضعي أفضل من ضحايا كثر، لكن هذا لا يفيدني… أريد ان يؤكد لي أحدهم ان حياتي سوف تعود كما كانت وان وجهي سيعود الى ما كان عليه. لقد جئت الى الطبيب لأجعل هذه المرحلة من حياتي تمضي بلا آثار. لا أريد ان أتذكرها، أريد ان انساها وهذا حقي، يقولها بغضب، لم يتركوا لنا الكثير من الحقوق سلبونا الحق بالحياة والمصير، فليتركوا لنا حق التحكم على الأقل بمظهرنا. بدا لي وكأنه يشعر باللوم تجاه نفسه لبقائه حياً أو لأنه يعمل على ترميم جراحه الخارجية والداخلية فيما غيره لم يتمكن من مداواة جراحه.
سوء حظ ماغي
ماغي سيدة فرنسية التقينا بها في عيادة د. ابي صالح تتكلم بهدوء ولا تشعر عندها بغضب اللبنانيين ونقمتهم، فهي لم تعش ما عاشوه من ازمات وما خبروه من انتهاك لحقوقهم واستهتار بكل مقومات حياتهم. الأمر بالنسبة إليها كان سوء حظ هي التي جاءت الى بيروت بعد سنين من العمل في اليمن. حين اصيبت قرب مستشفى الروم تنقلت بين عدد من المستشفيات القريبة التي لم تتمكن من استقبالها، حتى حملتها إحدى الدراجات النارية الى مستشفى قريب خارج العاصمة هنا تلقت العناية اللازمة وأحيطت بكل اهتمام. أُوقف النزيف تحت أذنها وعولجت جروح وجهها لكنها أدركت وهي هناك أن ثمة شيئاً لم ترتح إليه في التقطيب إذ بدا الجرح ثقيلاً مؤلماً، رغم تقديرها للجهود التي بذلت.. بعد يومين اتصلت صديقة لها بطبيب التجميل واصطحبتها إليه. مثل كل امرأة تقول أفضّل أن يكون وجهي جميلاً لكن ذلك لم يكن هاجسي والتجميل ما كان الأمر الأهم، فالخوف كل الخوف كان من التهاب الجروح أو اندمالها على زغل لو تركت على ما كانت عليه. ثلاث ساعات امضى د. ابي صالح ليعالج جروحها من جديد، عمل بهدوء وشرح لها كل الخطوات وما ستؤول إليه حالها فارتاحت نفسياً واطمأنت بعد ان باتت وطأة الألم عليها أخف… ماغي اليوم شاكرة لإنسانية الأطباء الذين اهتموا بها وواثقة من مهارة الأطباء اللبنانيين ولا سيما أطباء التجميل، وهي تحمد ربها أنها كانت في بلد فيه أفضل الأطباء.