IMLebanon

اللعب على «الخطوط الحمر» بين النزق الكلامي وغوغاء الشارع يطرح مصير الاستقرار!

المشهد الداخلي ما يزال ضبابياً ولا أساس لتسوية مرسوم الأقدمية.. والخطر الإسرائيلي ليس مجرّد انطباع

 

«حزب الله» يعمل لإعادة  رسم قواعد الاشتباك منعاً لتفلّت الأمور  و«التوقيع الثالث» يُبقي الأزمة مفتوحة

 

شكّلت بوابة التهديدات الإسرائيلية مخرجاً، على الأقل في الشكل، لوقف الاشتباك الداخلي بين الرئاستين الأولى والثانية. وبادر رئيس الجمهورية إلى تجرّع تداعيات «النزق الكلامي» لوريثه السياسي الوزير جبران باسيل الذي أطلقه في حق رئيس مجلس النواب نبيه بري وأفضى إلى استعادة مشاهد من «غوغائية الشارع» في انعكاس لتعبيرات «فائض القوة» التي يُشكّلها «الثنائي الشيعي». أما مضامين «قواعد الاشتباك»، فستكون الأيام المقبلة كفيلة بكشفها.

الأكيد أن «حزب الله»، الذي شعر بوطأة الحرب بين حليفيه، كان تحرّك مباشرة، وليس عبر وسطاء، يومي الجمعة والسبت من الأسبوع الفائت على خطي بري – باسيل. قصد وفيق صفا علناً رئيس «التيار الوطني الحر»، وزار حسين خليل عين التينة، وجرى الاتفاق على تهدئة إعلامية ووقف «إطلاق نار سياسي». أوعز بري السبت لمنظومته بوقف التصعيد، وحين استكملت محطة الـ«أو.تي.في» في مقدمتها الإخبارية مساء السبت حملتها، جرى العمل على تجاوز الأمر من زاوية أنه ربما لم يكن القيّمون على المحطة قد تبلغوا الاتفاق. لكن تسريب «شريط البلطجة» ليل الأحد أطاح بكل جهود «حزب الله»، وكان عليه أن ينحاز بشكل واضح، لا لبس فيه، إلى «الشريك الشيعي»، لأن كلام «الشريك المسيحي» عن «بلطجة بري وضرورة تكسير رأسه» لا يمكن أن تأخذ «حارة حريك» حياله  موقف الحياد.

بدا واضحاً، خلال اليومين الماضيين، أن ردّة فعل محازبي بري بدأت تُلامس المحظورات والخطوط الحمر، ولا سيما بعد عراضة «الحركة» أمام المقر المركزي لـ«التيار» في «سنتر ميرنا شالوحي»، والعراضة في ساحة «الحدث» التي أيقظت مقدمات الحرب الأهلية بخطوط تماسها السابقة، فكانت ثمة حاجة ملحة لتدخل قوي وحاسم لـ«حزب الله» لوضع ضوابط للاشتباك الحاصل، والذي يرتد استمراره «خسارة صافية» على «الحزب» أولاً، وعلى «الشيعية السياسية» ثانياً، والطائفة بذاتها ثالثاً، ويُطيح بكل المكتسبات التي استطاع «الحزب» تحقيقها بتوقيعه «ورقة التفاهم» التي صمدت لما يزيد عن عقد من الزمن، وأمّنت الغطاء الذي كان يحتاجه «الحزب» في المشروع الاستراتيجي الإيراني ودوره الإقليمي ووظيفة سلاحه سواء في الداخل أو الخارج والحاجة اللبنانية له.

ستتوقف المهاترات الإعلامية والحملات السياسية راهناً، لكن من الصعب القول أن أساساً ما قد جرى التوافق عليه لحل أصل الأزمة المتمثل بـ«مرسوم الأقدمية»، وما حمله من دلالات سياسية ومن ندوب وطنية. فالمشهد الداخلي لا يزال ضبابياً مليئاً بالتساؤلات من دون إجابات شافية. وأول التساؤلات يكمن في ما إذا كان الاشتباك السياسي بين عون وبري هو بمثابة «حرب استباقية» لمرحلة ما بعد الانتخابات، حيث الصراع على الأحجام والأوزان وتكريس وقائع من الآن، أم أنه معركة ذات أجندات محلية – إقليمية تؤول إلى اضطراب سياسي يمكن النفاذ منه لتطيير الاستحقاق، أم أنه فقط تجييش طائفي في لعبة شدّ العصب الانتخابي؟

بالطبع، المخاوف من حرب إسرائيلية تبقى قائمة على الدوام، لكن أهدافها، في حال حصولها، تتعدى المعطى الانتخابي. وعلى الأقل، الانطباع السائد حتى الآن أن ما يجري لا يعدو كونه تحسيناً لشروط اللاعبين المحليين على رقعة السياسة اللبنانية، خصوصاً أن طرفي المواجهة ينتميان استراتيجياً إلى المحور ذاته. من هنا، يسود الاعتقاد بأن مصلحة «حزب الله» تكمن في ضبط السقوف السجالية. وهذه المهمة تنطلق من مسلمات عدة:

أولها، أن مسألة عودة بري إلى رئاسة مجلس النواب ليست في حقيقة الأمر بيد «التيار الوطني الحر»، بقدر ما هي جزء من عملية توافقية بين المكونات الطائفية والسياسية اللبنانية بحكم طبيعية النظام القائم. وإذا كانت المكوّنات السياسية في زمن الانقسام العامودي بين اللبنانيين، بعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وفي ظل نتائج انتخابات 2005، توافقت على إعادة انتخاب بري خلافاً للإرادة الأميركية يومذاك، فإن الظروف اليوم هي أفضل لـ«الثنائي الشيعي» وموازين القوى الإقليمية تصبّ في صالحه، بعكس ما كانت عليه في انتخابات 2005.

ثاني هذه المسلمات يكمن في وجود قرار محسوم لدى تحالف «حزب الله» – «أمل» بأنه سيخوض الانتخابات عبر لوائح مُقفَلة في وجه «تيّار المستقبل»، وقد جرى إبلاغ «التيّار الوطني الحر» بأن الحزب لن يكون ملتزماً بالمرشحين العونيين حيث توجد لوائح مشتركة بين «المستقبل» و«التيار العوني» و«القوات اللبنانية»، وبالتالي، فإن الحزب سيخوض الاستحقاق الانتخابي بكل ما أوتي من قوة مع حلفائه اللصيقين به في «8 آذار»، من أجل الحصول على الكتلة الوازنة.

أما ثالث هذه المسلمات فهو إدراك «حزب الله» أن «التيار العوني» سيذهب إلى التحالف مع «تيار المستقبل» في كثير من الدوائر، بفعل التقاطعات بين الطرفين، وما يشكله «المستقبل» من رافعة انتخابية لـ«الوطني الحر». هذا التحالف ليس فقط تحالفاً انتخابياً بل أيضاً له أبعاده السياسية والمصلحية، ويأتي استكمالاً للتسوية الرئاسية التي تضمنت اتفاقاً بين عون والحريري على عودة الأخير إلى سدّة الرئاسة الثالثة بعد الانتخابات النيابية. وينقل محللون لصيقون بـ«حزب الله»  أن الحزب تعهد القبول بعودة الحريري إلى رئاسة الحكومة الأولى للعهد، لكنه لم يسحب هذا التعهد على رئاسة حكومة ما بعد الانتخابات البرلمانية، وأن الحريري يعتبر أن التزام عون به يُشكّل، إلى حد كبير، انعكاساً لعدم وجود «فيتو» عليه من «الحزب»، وهذه مسألة صحيحة، حيث أنه عازم على بقاء تعاونه مع الحريري بوصفه سيبقى الشريك السني الأقوى، وإن كانت الانتخابات قد تؤدي إلى تراجع حجم كتلته النيابية. وليس سراً أن « الثنائي الشيعي» ستكون لديه قدرة أكبر على المناورة والضغط على الحريري، خصوصاً إذا نجح تحالف «8 آذار» في تأمين إيصال كتلة سنية محسوبة عليه إلى ساحة النجمة.

قد يكون من غير الممكن، راهناً، تحديد أبعاد الأزمة السياسية الراهنة  بين الرئاستين الأولى والثانية وتداعياتها وتأثيراتها على التحالفات الانتخابية حتى لو نجح «حزب الله» في رسم قواعد الاشتباك  لمنع انفلات الأمور على الأرض، كما حصل في اليومين الماضيين، لكن هذا الضبط سيكون مرحلياً ما دامت التسوية حول أصل الأزمة لم تحصل. وأصل الأزمة كان في السابق، وهو راهناً وسيبقى في المستقبل، متعلقاً بدور الطائفة الشيعية في السلطة التنفيذية والضمانات التي يمكن أن تحصل عليها، والتي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال التوقيع الثالث الذي يشكله عملياً وزير المال، ما يعني عملياً أن المعركة ستبقى مفتوحة إذا لم تصل الأطراف السياسية إلى إيجاد التسويات المطلوبة لضمان انطلاقة جديدة للعهد مع حكومة ما بعد الانتخابات، التي يعتبرها عون حكومته الفعلية الأولى المنبثقة عن تمثيل شعبي صحيح.

كثيرون في الكواليس السياسية يسألون عما إذا كان «وريث عون» خسر فرصته في رئاسة الجمهورية؟ الجواب اليوم يبدو سلبياً بالتأكيد، حيث يرى مراقبون أن بري الذي أُخذ على حين غرة في التسوية الرئاسية، قد يكون نجح في توجيه ضربة قاصمة لباسيل تقطع الطريق على أحلامه المستقبلية!