IMLebanon

اللعب بالديموغرافيا

للمرة الأولى في عمر المجلس النيابي اللبناني الحالي، يعترض النواب المسيحيون على قانون ينطوي على قدر من المساواة الجندرية وعلى توجه لتعزيز المواطنة، وهي المهمة (الاعتراض) التي كان عادة يتولاها النواب المسلمون السنّة بذريعة الحفاظ على أسس الشريعة الموجود بعضها ضمنا في القوانين اللبنانية.

اتفق النواب المسيحيون في موقف يتناقض مع خلافاتهم التي لا تنتهي، على مشروع قانون يمنح الجنسية إلى أولاد المرأة اللبنانية المتزوجة من أجنبي. اختفت صراعات تمتد جذورها إلى عشرات الأعوام وحساسيات تشكل واحداً من أسباب عدم انتخاب رئيس للجمهورية وشلل بقية مؤسسات الدولة، وأجمع نواب «القوات اللبنانية» و «التيار الوطني الحر» وحزب الكتائب على رفض مشروع القانون الذي تقدم به نواب كانوا في العادة يتولون عرقلة كل ما من شأنه إنصاف النساء، مثل قانون تجريم العنف الأسري أو مشاريع ترمي إلى إضفاء المزيد من العدل على العلاقات الاجتماعية في لبنان متل القانون الاختياري للأحوال الشخصية والزواج المدني.

تبادل المسيحيون والسنّة المواقع إذاً، في المنازلة حول منح السيدة اللبنانية جنسيتها لأبنائها، فتبنّى الأولون الموقف المحافظ وأظهر الأخيرون رغبة في الانفتاح. ساند الشيعة السنّة من دون أن يكونوا في الصف الأول من المواجهة فتجنبوا الاندراج في حسابات الربح والخسارة التي يتسلى بها صحافيون في أعقاب كل مهزلة كهذه.

تلازم رفض مشروع منح الأم جنسيتها إلى أبنائها، مع إصرار مسيحي على مشروع لإعادة الجنسية اللبنانية إلى المهاجرين الذين فقدوا جنسيتهم لأسباب شتى، منها عدم ملاحقة قسم وازن منهم حقَّهم في الاحتفاظ بها وقيامهم بالإجراءات اللازمة لذلك. لم يبدِ المسلمون حماسة لمشروع القانون هذا، لكن سقف معارضتهم ظل أدنى من معارضة المسيحيين القانون الأول.

لم يكن المسيحيون «تقدميين» ومساندين للعلمانية وحقوق المرأة عندما أيدوا مشروع الزواج المدني والقانون الاختياري للأحوال الشخصية، ولم ينقلبوا «رجعيين» عندما رفضوا منح الأم جنسيتها إلى أبنائها. وإذا كان من دروس يمكن استخلاصها من الحروب الأهلية المتعاقبة منذ 1975، فواحد من أهمها أن للطوائف منطقها الخاص ومصالحها التي لا يصح وصفها بالتقدمية والرجعية واليمين واليسار وغيرها من مصطلحات السياسة الحديثة، وهو ما انتهى إليه حتى من قال يوماً بوجود «طوائف وطنية» وأخرى «عميلة» أو «طبقات– طوائف» في لبنان.

العقل الطائفي بسيط. هو قليل التلافيف التي يرى العلماء أنها دليل رقي عمليات التفكير. بل يكاد عمله يقتصر على ردة الفعل المبرمجة مسبقاً فيه. يحكمه الخوف وغريزة الحفاظ على النوع، أي الدوافع ذاتها التي تحرك كائنات الخلية الواحدة. ما يغري بالتأمل في هذا الواقع لا ينبع من طرح سياسيي الطوائف مسائل معقدة معرفياً وسياسياً أو تحديات أخلاقية كبرى. بل على العكس.

ما يجذب الانتباه هو ذلك الميل إلى البقاء في لعبة الديموغرافيا والخشية من الفناء في بحر الآخر المختلف رغم العواصف المحيطة والمهددة بتدمير ما تبقى من اجتماع وسياسة واقتصاد في لبنان. الخطة الأكثر حكمة لمواجهة التحديات هي المزيد من التخندق في المكان، حتى لو بدا أنه سيستحيل رماداً بعد برهة. مَثَل هؤلاء النواب – وجمهورهم طبعاً- مَثَل السلحفاة التي تدخل قوقعتها ما إن تسمع عصف الريح. لكن رياح الحاضر من القوة بحيث ستحمل السلحفاة وتكسر قوقعتها على صخرة الواقع.