Site icon IMLebanon

شاعر لبنان الحلم والجمال والعنفوان

بعد عمر طويل في هذه الدنيا إلى عمر طويل بعد الرحيل. هذا هو سعيد عقل، شاعر المئة سنة، شكل ظاهرة فريدة بين الشعراء على امتداد أعماله وآرائه وقصائده ونثره ومسرحياته، كأنه كان فاصلاً بلا قطيعة بين الشعر العربي الكلاسيكي وبين قصيدة الحداثة. في مسرحيتيه «بنت يفتاح» و»قدموس» اخترق الشعر الغنائي العفوي، المتدفق، (من دون تدخل الشاعر) بقوة الإيحاء، أي من الشاعر السلبي الذي يتلقى الشعر كالوحي، لتولد القصيدة كاملة، إلى القصيدة الرمزية. من مائية الشعر وسيولته عند الياس أبي شبكة وصلاح لبكي، وعلي محمود طه، والأخطل الصغير، إلى القصيدة المنحوتة. من الفيض الخالص إلى المعمارية، من العفوية إلى الصناعة، لكن الملتبسة بمجازاتها وموحياتها وظلالها وإيقاعاتها؛ إنها مواصفات المدرسة الرمزية (من بودلير إلى مالرمه، إلى بول فاليري وصولاً إلى بول فرلين وفرهايرن). بمعنى آخر صاغ سعيد عقل القصيدة من تأثيراته بهذا الاتجاه كاسراً المباشرة الداخلية، التي تؤدي الحالة أو المعنى، على غير التباس وغموض، إلى اعتبار أن المعاني والأفكار والحالات، تُوحى، عبر الصور، وعلاقاتها الاستعارية، وتصادماتها؛ فالقارئ يتخيل القصيدة، تخلق فيه جسداً، مناخاً، طقساً، وليس مجرد انفعال.

أي نقل القصيدة من المعطى الأول إلى القطعة الفنية، من خلال هذا الكد والجهد والعمل والنحت، فالمعنى وراء الصورة. هذا ما وافاه مالرمه (وأحياناً بودلير)، وبعد فاليري: رمزية الصورة المفتوحة على دلالاتها، وإيحاءاتها، والنوافذ. فبينما كانت القصيدة عند الرومانطيقيين مرآة الشاعر القريبة، اللصيقة، صارت مع سعيد عقل النافذة. النافذة المطلة على تنوع في داخل التركيب، وعلى الأشكال المبتكرة، و»الغربية». قصيدة الشكل هي. وقد برع سعيد عقل في هذه اللعبة الصعبة، لعبة المعماري والنحات والرسام، مزاوجاً بين تأثيراته الفرنسية والعربية. فأبو تمام قد يكون من سلالته، في «شكليته» وفي «غرائبه»، وفي صناعته، وفي العمل على فض التركيب التقليدي للقصيدة العربية (وهناك في الشعر الجاهلي ضده هو لبيد وإلى حد ما طرفة). ونظن أن أبوة أبي تمام للمتنبي انتقلت إلى سعيد عقل: فالإثنان على تماس بشعره. ونظن أن سعيد عقل، في مغامرته هذه، لامس أحياناً ما ظهر عند أبي تمام من وعورة التعبير وشكلانيته. فالإيحاء «الرمزي» عند فاليري توغل في ظلمات الداخل، وتشابكاته، وأنفاقه، ومجهوله، بينما رمزية سعيد عقل حنت على الشكلانية والجمالية على النمط والموشحات، فتساوت بلعبة الشكل المسرف، والجمالية (الإغريقية) على غير اتصال باحتمالات الحالات. وهذا بالذات ما أدى إلى كسر المنحى الدرامي، وصراع الشخصيات، وهوياتهم، واللغة العالية، والمتساوية، في الحوارات؛ هذا ما نقرأه في «بنت يفتاح» و»قدموس» مما يجعلهما أقرب إلى قصيدتين حواريتين منهما إلى عملين مسرحيين، لكن «بنت يفتاح» و»قدموس» كانتا من الناحية الشعرية فتحاً جديداً في الشعر العربي. وبعضهم قال إن سعيد عقل أنقذ الشعر العربي من «الرخاوة» الرومانطيقية؛ لكنه بقي في المسرح الشاعر. لا المسرحي: مع أنه تأثر بشدة براسين وكورني وشكسبير. إنه إذاً فتح شعري وليس فتحاً مسرحياً. (على عكس أحمد شوقي الذي تمكن وإلى حد من تطويع اللغة الغنائية إلى الدرامية)، وعندما صدر كتابه الأول «بنت يفتاح» كان مفاجأة كبيرة للشعراء جعلت صلاح لبكي بعد قراءته له «بعد هذا الكتاب علينا أن نكسر أقلامنا»! وقد بدا في الثلاثينات والأربعينات وكأنه شكل ظاهرة منفردة، أثرت عميقاً بشعراء عديدين منهم أدونيس ويوسف الخال ومي المر وجوزف حرب وجورج شكور وهنري زغيب… إذ بات هناك شيخ طريقة له محبوه ومحتذوه. لكن سعيد عقل في «مريم المجدلية» بدا أرحب في الصوغ وأسلس؛ هذه القصيدة الصغيرة من أفضل كتاباته، ونستشف منها تأثره بفاليري من خلال قصيدته «سميراميس». ونظن أن هذه القصيدة، خرجت من المعمارية النحتية إلى المعمارية الشفيفة، الموسيقية (أي رمزية الموسيقى). وهنا نعود إلى موقف بول فرلين من الشعر عندما يقول في قصيدته «الموسيقى هي كل شيء». فبين النحتية المعمارية، والمعمارية الموسيقية انغراس عميق في صميم اللعبة الرمزية في تمييزها بين رمزية الصورة (في قدموس)، ورمزية الموسيقى (في «مريم المجدلية»). وهنا بالذات نسجل هذا الانتقال إلى ديوانه «رندلى»، وهي مجموعة قصائد غزلية، ذات نفس إيقاعي صوري جمالي، حيث لعبة الإيقاع الداخلي (أو المجازي لكي لا نقول البلاغي)، تنفست بهذه الإيحاءات. وهنا انتقلت الصناعة من الحوارية (مع قدموس)، الحوارية المتصادمة، إلى السيولة النصية. وقد تأثر بهذه القصيدة العديد من الشعراء وفي مقدمهم نزار قباني وكثيرون من الشعراء. ولم يعد سعيد عقل إلى لغته الحوارية الممسرحة، من خلال أعماله اللاحقة مثل «أجمل منك؛ لا»، وخماسيات الصبا (التي نشرها في مجلة «الصياد» في الستينات)، و»كتاب الورد»، و»قصائد من دفترها»، و»دلزي»… كأنها كلها نص واحد طلع من «المجدلية» و»رندلى». لكن في هذه الدواوين التي نجد فيها القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، برز توغله في الجمالية الشكلية، وفي اللعبة المجازية، وفي الاهتمام «بالكمال الشكلي» الخالص؛ والجمالي التعبيري ارتبط عند سعيد عقل «بالجمال» تصوير الجمال والبهاء عند المرأة وفي الطبيعة. وهنا بالذات، فعرف أن سعيد عقل جافى «تصوير البشاعة» أو بشاعة الجمال، كما نجد عند بودلير في «أزهار الشر» أو حتى عند الياس أبو شبكة. يكره تصوير المآسي، والموت، والقلق، والجنون، والانفلات الغريزي وكائناته والنواحي المظلمة الحزينة عند الإنسان. وقد هاجم من ضمن هذا الموقف بيكاسو (البشع)، وفرويد، وماركس… وصولاً إلى السوريالية، ووحدتها، وقذارات صورها… وانحرافاتها، والجنس الطاغي فيها، والصدمة الاجتماعية الحضارية. لم يؤمن بذلك. فالجمالية تستوحى من الجمال الشكلي والمعنوي، ومن الإخلال، والإيمان، والوطنية، ورموزها وأبرزها لبنان. إنه يرى الجزء الملآن من العام، لا الجزء الفارغ. وعليه، فإن سعيد عقل جافى كل ما صنع بداية القرن العشرين وحتى القرن التاسع عشر: من رمبو وفصله في الجحيم، وإشراقياته، وكذلك ما توقف عنده بودلير في تصوير الجوانب الملتبسة في النفس. بل وحتى فاليري في توغله في طبقات النفس المعتمة، المخيفة. كأن سعيد عقل كان يخاف من أعماقه، يخاف مما يعتمل داخله، يخاف التجارب الداخلية التي تحرفه عن الجوانب الجميلة الشكلية في الحياة.

فلا بيكاسو يعجبه، ولا دالي، ولا (ابو شبكة)، ولا بروتون ولا الدادائية، ولا التكعيبية، ولا الوحشية… في الرسم، ولا هنري مور في النحت. فهو اليف الاشكال البصرية المريحة، المتوازنة، ذات المواصفات المتسقة، اي الجمالية الصافية، التي ميزت اصلاً الشعر اللبناني عن سواه في العالم العربي، اي هذا الهاجس بالشكل، وبأناقة التعبير، و»جوهرة» الكلمة (كما نجد عند الشاعر الكبير امين نخله: جوهرجي الشعر العربي). وبهذا تصدى لجبران ايضاً لأنه لم ينتصر لهذه الخاصية الجمالية، ولغنائيته الرخوة، ومباشرته، من دون ان ننسى ان ثورة جبران وتمرده، على القيم السائدة، لم تكن لتلقى ارتياحاً عند سعيد عقل، المرتاح الى صورة العالم الكاملة، حتى انه لم يعتبره مهماً.

لكن اذا انتقلنا من مرحلة المعمارية الحوارية (في قدموس)، والمعمارية الموسيقية في (رندلى) وما اتى بعدها، نتوقف عند سعيد عقل الشاعر العمودي، المنبري، او المناسبي، او الذي يلتقي في بعض قصائده بعض شعراء العرب القدامى لاسيما الشعر العباسي، مع المتنبي، وابي تمام. وقد جمع ذلك في ديوانه «كما الاعمدة» قصيدته الطويلة «فخر الدين الثاني» التي تحمل النفس الملحمي في ترميز الشخصية، ورفدها بأحجام تاريخية عالية، وبلغتها المتدفقة، جامعة المخيلة والتاريخ، مازجة «التقديس»، و»الغلو» في المعاني واللغة والشخصيات والاحداث.

وضمن هذا النتاج المناسبي وقصائد «سائليني يا شام»، و»غنيت مكة»، و»شام يا ذا السيف» وهي قصائد غنتها فيروز و»كلامي على رب الكلام»، نظمها والقاها في احتفال بعلبك بعاشوراء، و»اللون الاخضر» في رثائه عمر فروخ، و»النهران» القاها في الاحتفال بالروائي الروسي شولوخوف الذي نال جائزة نوبل، و»نسمت» و»مرَّ بي»، و»من شاعر» في ذكرى الاخطل الصغير، و»اغنية الحجر» في يوم نهرو، و»ملك لك العصر» (انشدت في يومي خليل مطران في بعلبك) و»داو شعري» في رحيل انطوان قازان، و»عملاق مصر» في احتفال مصر بعزيز اباظة، و»رصعت بالي» في يوم شفيق معلوف و»آتٍ معي زهر لبنان» (في مهرجان «ايام طه حسين في القاهرة». ولا نظن ان لغة هذا الشعر المناسبي تشكل اختلافاً عند سعيد عقل، بقدر ما تنكشف فيها عودته الى الشعر الكلاسيكي مع كباره. فقصيدة «النهران» عن شولوخوف، نجد تأثير المتنبي دامغاً فيها. وقال الكاتب رئيف خوري عنها «حاول سعيد عقل ان «يتعمشق» (اي ان يتسلق) بالمتنبي». كما ان هذه القصائد لم تشفعها اللعبة الشعرية الجمالية في الوقوع في الصورة التقليدية، والمعاني التقليدية.

اما نثر سعيد عقل، فهو كتابة أخرى لشعره المنظوم، اي اللعبة الشكلية، والبلاغية، والمجازية، كأنها في بعض سياقاتها احياناً تبدو اما كتاباً للاطفال «لبنان ان حكى»، حيث الحكاية تمتزج بالاسطورة، او في «صناعة السيف» وهي مقدمة على «تاريخ اللبناني» للعميد سامي ريحانا، او كأس الخمر، او حتى في مقالاته الصحافية في «الصياد» وفي «لسان الحال» وصولاً الى «السفير». اللعبة الشكلية التي تحاول رفع المعنى من مستواه العادي، او الجمالية التي تصوغ الافكار المتداولة بصور مركبة. ونظن ان نثره هذا وجد صدى كبيراً عند بعض الكتاب كانطوان قازان، وجورج سكاف، وهنري زغيب وعند كثيرين. وهو يلتقي في هذا السبيل مع الشاعر والناثر الكبير امين نخلة صاحب التحفة الفنية «المفكرة الريفية».. لكن امين نخلة اكثر تماسكا واقل ملحمية، واهتماماً اكثر بالتفاصيل، الفردية، والطبيعية، واكثر اقتصاداً، وتكثيفاً، وشغفاً على المفردة. لكنهما، رائدان في هذه الكتابة النثرية الجديدة، المجلوة، الصافية، التي اسست لنوع جديد من النثر.

يرحل سعيد عقل، تاركاً وراءه ريادة شعرية ونثرية وتاريخاً حافلاً بالمواقف، والافكار، والقضايا التي اثارت جدلاً واشكاليات لاسيما مسألة «العروبة» (التي يرفضها) والحرف اللاتيني بديلاً من الحرف العربي، انه محرض على الافكار، والمواقف الجريئة، ومنخرط احياناً في السياسة المباشرة بطريقة «شعرية» لا سياسية. سعيد عقل ترك آثاراً عميقة في الشعر العربي الحديث الذي جعل اللغة هي المسألة، والاشكالية تماماً كما فعل بودلير ومالرمه. اثر في كبار الشعراء من جيل الستينات والسبعينات، سواء مباشرة او غير مباشرة، لكنه في قلب لبنان الذي قدسه، وقدس تاريخه، وفي قلب الشعر العربي الحديث.