IMLebanon

أسمّيكم شعراء وفدائيين

أسمّيكم عشباً يورق في صحراء. أسمّيكم فجراً. أجنّةً. ضحكةَ امرأة قررتْ أن تحبل برجلٍ تحبّه.

أسمّيكم زيتوناً وزوفى ونشيد أناشيد.

* * *

أسمّيكم شموساً وأقماراً ومرايا لأصول الحقّ السليب.

* * *

تعلّمونني فنون الأمل. فليس كثيراً أن أسمّيكم حريةً، كالتي، بعضنا أو كثيرنا، لا يعرف جيداً أن يسهر عليها، وأن يرفع رأسها، وأن يدافع عنها، وأن يحبّها.

أسمّيكم أساتذة!

* * *

سكاكينكم التي من يأسٍ، كالتي من أمومةٍ ووجعٍ وصوّانٍ وغضب، تنادي سماءً موعودةً بالبروق.

سكاكينكم، لأنها توازي بحراً موعوداً بالزوارق.

سكاكينكم، كم هي يد الغريق ترفع بحر الأرض إلى برّ السماء.

* * *

سكاكينكم التي من لحم فلسطين لا تشبه أحداً. لا تشبه شيئاً.

هي سكاكين. وتشبه فلسطين.

* * *

هذه السكاكين، كم وحدها الأيدي التي تمتشقها، جديرةٌ بقطاف الزيتون وأحزان المسيح.

* * *

إنها سكاكين. ولن تجرح عشبةً. ولن تزهق عصفوراً. ولن تذبح نبعاً. ولن تمزّق قصيدةً. ولن تقطع شجرة زيتون. ولن تمنع هواءً عن رئتين. ولن تسفح سهراً على جبل. ولن تهرق خيالاً لغيمة. ولن تغلق باباً لرحم. ولن تطفئ وعداً. ولن تكتم نجمةً فوق ليل. ولن تكون يد القاتل على عنق قتيل.

* * *

إن هي إلاّ سكاكين.

كالأمل. كالحجارة. كالشغف. كالشبق. كشجر الياسمين.

من أجل أن نظلّ موعودين بفلسطين!

* * *

أسمّيكم غاباتٍ. أجراساً. كتباً. مناديل. وأوطاناً للاجئين.

ماذا أسمّيكم أيضاً؟

كم أسمّيكم نهراً مفضياً إلى بحر حيفا ويافا وأشعار الجليل.

* * *

من أنواع السكاكين، أملك لحم قلبي، والحبر، وتلك المستخدمة في أشغال المطبخ.

أمس، في الليل، حملتُ إليكم من لبنان، من أنواع السكاكين، شيئاً يشبه صعتراً ملموماً بالأهداب وسمّاقاً ممزوجاً بجروح الحنين.

* * *

مَن مثلكم، يستحقّ فعلاً منقوشة الصعتر وخبز الطابون والخمير والعجين وأرض فلسطين.

* * *

لأجل ذلك أسمّيكم شعراء وفدائيين.

للسبب نفسه أسمّيكم فلسطين.

* * *

وأسمّيكم هكذا، من أجل أن تكونوا أوفياء لأقداركم.

ومن أجلنا هنا، حيث لبنان يهرب كالأطفال والزيتون من أرواحنا.

ومن أجلنا هنا، حيث سوريا تُرَاق بيتاً بيتاً، وطفلاً طفلاً، وثوّاراً وأشعاراً وبساتين.

ومن أجلنا هنا، حيث العراق نهران نازفان وتيهٌ وقبورٌ وأشلاء نخيل.

وإذا كانت تنفع عندكم، فهل تنفع، بعدُ، هنا، السكاكين؟!

* * *

لقد خرّب الكثيرون منا لبنان كلّه. وسوريا كلّها. والعراق كلّه. وارتكبنا في حقّ أنفسنا وحقوق أوطاننا ما يرتكبه “شعب الله المختار” بكم وببلدكم.

في لبنان، يطلق البعض علينا تسمية “الصهاينة” رمزياً ودلالياً. معهم حقّ ربما في التسمية. هاكم مثلاً ما يجري عندنا: الزبالة تملأ البرّ والبحر والسماء. زبالة المجلسَين الكريمين، وزبالة الحوار والمتحاورين، تسدّ الطرق أمام الحلول “المتواضعة” التي تسيّر أحوال الناس، وتلطّف أحزانهم وأمراضهم. الزبالة ذاتها تمنع انتخاب رئيس للجمهورية.

ثمة، أمس، مَن منع جماعة “فرح العطاء” من تجميع الزبالة، بذريعة أن هذه الجماعة لا تملك ترخيصاً قانونياً بهذا العمل المجاني.

ألا ترون أن “الصهاينة” عندنا يشبهون صهاينتكم: أولئك يقتلون فلسطينكم، وهؤلاء يقتلون لبناننا؟!

لكن، مهلاً. ثمة، هنا، أيضاً، ودائماً، هؤلاء النادرون الذين يخبزون لنا الأمل، ويجعلوننا موعودين بلبنان “محرّر” من الزبالة والمُزبلين.

هؤلاء، أيضاً، يجب أن أسمّيهم شعراء وفدائيين.

* * *

في سوريا، “الصهاينة” كثيرون جداً. متعددون، متنوعون، مختلفون، لكن… متفقون. هناك “الصهاينة” الأسديون والبعثيون وحلفاؤهم من أهل “الله” وإيران ولبنان وروسيا. وهناك “الصهاينة” “الداعشيون” والتكفيريون والظلاميون، ومَن لفّ لفّهم من الإسلامويين المتخلفين. وهناك “الصهاينة” الأميركيون والأوروبيون وهلمّ. جميعهم “صهاينة”، مختلفون، لكنهم يتفقون في ما بينهم، إذ يمعنون تدميراً وتقتيلاً وتقصيفاً وتهجيراً وتخريباً وتشريداً، حدّ أنه لم يعد ثمة موضعٌ في بلاد الشام كلها إلاّ لـ”الصهاينة” الغاشمين.

أسديون وداعشيون وإلهيون وإيرانيون ووهابيون وروس وأميركيون وأوروبيون، يغتصبون سوريا كلّ يوم، ويواصلون اغتصابها، كما لو أنهم لم يعرفوا امرأةً، ولم يغتصبوا من قبل.

برّها وبحرها والسماء، لم تعد تتسع لقصيدة، ولا للوحة، ولا لأغنية، ولا حتى لياسمين الشهداء. صارت فقط تتسع للقبور والسفلة والأدعياء.

سعدالله ونوس قد رأيته يهرب في الليل البهيم من قبره. قبر محمد الماغوط، ومعه قبر نزار قبّاني، قد رأيتهما هما أيضاً يفرّان في الكوابيس ليلتقيا بكفن بدر شاكر السياب، هاشلاً على ضفاف النهر، تائهاً مثلما تتيه نخلةٌ في الهجير.

خارج الغمرة “الصهيونية” المفجعة، ثمة المغنّي الذي أرسل أغنياته في الخيال الطلق لتهجس بالحنجرة القتيلة. ترى، أليس ثمة مَن يصلح حنجرة قلبه المحطمة، ليأتينا بالحنجرة والأغنية!؟

وثمة الطفل الذي ضيّع الطريق إلى ثدي أمّه. أليس بين أمهاتنا مَن تعطيه ثدياً، أو أمّاً، لينمو ويكبر ويحلم بخيال الثدي، ووهم الأمّ؟!

وثمة الفتى الذي لم يُعثر على قبره بعد. وثمة الصبية التي التُهِمت. وثمة الرسّام الذي كُسرت أصابعه، وسُجِن. وثمة الفتيان والفتيات والأطفال الذين هتفوا في الشوارع، وثمة الشعراء والصحافيون والكتّاب والمثقفون السوريون الذين يعملون، في العراء، بسكاكين الحبر والوجع وحبر المرارة، تحت سماء بيروت، في اسطنبول، وفي أراضي الشتات كلها. وثمة الثوّار الأنقياء الأحرار. أليس ثمة مَن يكتب لهم أغنية، أو قصيدةً، أو شيئاً يشبه اليد التي تصنع لحم الصباح؟!

هؤلاء شعراؤنا وفدائيّونا. وأنا أسمّيهم شعراء وفدائيين.

* * *

في العراق، لا شيء في العراق أكثر من الدموع. ثمة دموعٌ أكثر من شجر النخيل. وأكثر من الموتى. وأكثر من الموسيقى والقصائد والقصص والرسوم. دموعٌ دموعٌ دموع… مَن ينقذ العراق من الدموع؟!

أسمّي أهل الدموع من العراقيين شعراء. وأسمّيهم فدائيين.

* * *

في لبنان في سوريا في العراق وفلسطين، أسمّيكم أيها الأحرار شعراء وفدائيين.