IMLebanon

شعراء علي

كانت هوية الجنوب عفويّته. فيه تلتقي الأديان تلقائياً مثل تلاقي الأودية. تجاور مثل لوحة فسيفساء: سنّة وشيعة، أرثوذكس وموارنة، دروز وملكيون كاثوليك ما بين الجبل والساحل. لم يكن التجاور جغرافياً بل كان روحياً واجتماعياً. البلدة الواحدة موزّعة على الطوائف. أو بلدة وحيدة من دين مختلف وسَط قضاء كامل، كما هي بِنواتي في منطقة جزين.

على حافّة بِنواتي السنّية دير مشموشة، أحد مراكز الحراسة للغة العربية، الذي من مدرسته تخرّج شبّان سائر الأديان. من حاصبيا إلى صيدا مروراً بالنبطية. كان الجنوب أرضاً تُولد منه فيها الأديان، وليس تُهاجر إليها، كما كانت بيروت وطرابلس وصيدا. وفي هذه البقعة تعدّدت المراكز الروحية، من خلوات البيّاضة إلى علماء جبل عامل ومناهِل صور.

جورج جرداق كان علامة باهرة في فلَك الروحانيّات الهاربة من الطوفان. تعلّم القرآن ونهج البلاغة في بيته القروي قبل مدارس بيروت. حفظ الذِّكر الحكيم وأصداء البلاغة تحت الشجر وفوق البيادر، مثل كثيرين قبله وبعده ممّن أفاقوا على البرية وهي تغنّي الذاكرة برصع التراث، شعراً ونثراً وأثراً.

لا يُنظر إلى جورج جرداق كحضور أدبي فردي، بل تفرُّد من مرحلة عفوية صادقة غير مزوّرة كان فيها النصارى شعراء الإسلام ومؤرّخيه: الياس فرحات، مارون عبود، جورج صيدح، خليل مطران، وشاعر “غنّيت مكة أهلها الصيدا”، سعيد عقل.

سبَق جورج جرداق إلى الانبهار بالإمام علي، شقيقه فؤاد جرداق. وسبق جميع الجنوبيين بولس سلامة في “عيد الغدير”:

“يا أمير الإسلام حسبِيَ فخراً

إنني منك مالئ أصغرياَّ”.

لم تكن يومها علاقة بين شيعة سياسية ومارونية سياسية، بل بين آلام المسيح وآلام الحسين. لا بنود ولا فوائد. قال بولس سلامة في محاضرة ألقاها في زحلة أوائل الستينات إن مجموع ما اشترت المؤسسات الشيعيّة من “عيد الغدير” كان 143 نسخة. وقد سألتُ جورج جرداق عن مبيعات كتُبه عن الإمام علي فقال إنها طُبعت زوراً في كل مكان.

كان بولس سلامة يضع في صدر منزله القرَوي صورة واحدة هي لوالده. وفي مكتبه الصغير في بيروت كانت هناك صورة واحدة وحيدة: الإمام موسى الصدر منحنياً بقامَته النبيلة يسلّم على الشاعر الذي لم يُشفَ تماماً من آثار 24 عملية جراحية.

كان ذلك زمن الملاحم الشعرية. أو تلك التأمّلات النثرية التي وضعها جورج جرداق. وبعد “عيد الغدير” و “عيد الرياض” وضع بولس سلامة “مع المسيح”. اللافت أن معظم مراجعه كانت من الإسلام. وضع الدكتور طريف الخالدي “المسيحية في الإسلام” (“دار النهار”) مستنداً إلى غزارة علمه وتنقّله بين المراجع والمكتبات. ولو قٌدّر لي، لأشرْت عليه بالاطلاع على مراجع الرجل الذي وضَع سيرة المسيح وهو مُلقى على “إن حظّي من الحياة سريرٌ / صرت منه فلم يعد خشبياً”.

عاش بولس سلامة في حاصبيا قاضياً بين الدروز. ويروي مُنح دبغي ابن البلدة، ولاحقاً صاحب “الهورس شو” أن جميع الشكاوى التي كانت تُحال على المحكمة، كان بولس سلامة يحلّها ببضعة أبيات من الشعر العامي، في ساحة البلدة، ثم يصرف الشاكي والمشكو منه والحضور المصفّق. لم يكن يريد أن يترك حقداً أو ثأراً أو مرارة في قلب أحد. ومن حاصبيا دخل فلسطين صيّاداً على فرسه، فلما ضاعت العام 1948 كان أول عربي يضع ملحمة شعرية باسمها، لا يسبقه إلى ذلك مسلم في أي مكان.

ولم تكن فلسطين تدرُّ ذهباً ولا مناصبَ في تلك الأيام، وإنما مدخل النصارى إلى إعلان عروبتهم. ومرجعيون، التي وُلد فيها جورج جرداق ونشأ، كانت أحد منطلقات ثورة سلطان باشا الأطرش، “الثورة العربية” التي بدأت في “جبل العرب” قبل أن تُصبح للجبال والسهول والسواحل، أسماء الطوائف و”حروب الطوائف” ودمار الطوائف وحرائقها ورمادها.

إضافة إلى الجانب الغنائي والساخر في شخصه، كان جورج جرداق، مثل جيله، مائلاً إلى التمرّد وكره الاستعباد والاستغلال. لا أدري إن كان ذلك تأثير السنوات الأولى في مرجعيون أم سنوات التتلمُذ على رئيف خوري في “البطريركية”. ما نَدريه، هو أنه أمضى عمره في الصحافة والأدب، منتقداً السطحيّات والضحالة. كل شيء نقد إلا الشعر فغنّاه غناء سلسبيلاً:

بعد حين يبدّل الحب دارا

والعصافير تهجر الأوكارا

وديار كانت قديماً ديارا

سترانا كما نراها قِفارا

كانت أم كلثوم قد توقّفت عن الصُداح العاطفي بعد 1967 حداداً على كرامة الأمة. وعندما قرأ لها جورج جرداق “هذه ليلتي” خلعت صمت الحداد. وقيل يومها أن “الستّ” طلبت منه أن يغيّر اسمه إلى “خضر” لكي تغني له المزيد. سألته عن ذلك بعد أعوام طويلة فقال: “سفاهة السفهاء ومخيّلات التافهين”.

ولكن هل كان جورج جرداق مسيحياً حقاً؟ خارج المزاح، لا. كان يُفاخر بأرثوذكسيته على أنها هوية سياسية ودلالة على ليبرالية فكرية. وغالباً ما تتحوّل المسألة كلها إلى مفاكهة عندما يقول لمحدّثه الماروني: “أنتم كنيسة ونحن كنيسة؟ تسمّون مطارنتكم رولان وإميل، بينما مطارنتنا جاورجيوس وإثناسيوس وثيوكراتسيوس”!

كان غالبَ رفاقه من الروم المشابهين. تقريباً في كل شيء. في الموهبة وفي الظرف وفي الحياة الغنائية، وأبرزهم سعيد فريحة وعاصي ومنصور الرحباني. وقد اشتهرت عن عاصي وجورج مبارزة شعرية من أجمل شعر “الإخوانيات”.

بدأ جرداق يومها المنازلة بقصيدة مطلعها “هذا قصيدي في بني الرحبان / أهل الذكا ومشايخ الزعران”. وردّ عاصي بساخرة تبدأ “أدجاجة الغرام قاقي قاقي / وبِيضي على جرجي بني جرداق / قد قام يهجونا ببعض قصيده / من صوت زرزور وبحّة قاق”.

خلف السخرية والتمرّد كان يعتكف عالم ومؤرّخ من كبار العرب. وكان مكتبة متحرّكة، يمضي أكثر وقته في مكتبته الخاصة التي في حجم مكتبة وطنية. ومن غير أن ينزل إلى حروب الأسماء، كان له شغَف يومي عميق بالكتابة عن السياسيين “بالشاكوش”، مازجاً العامية المضافة بِوقار الفصحى. وفي اعتكافه كان ينتقل من خيبة وطنية إلى أخرى. كلما راهن على أمل جديد، ترحّم على الأمل القديم. وكان في خوف دائم على لبنان وفي رعب حقيقي منه. وكان يحلو له القول: “أي بلد آخر يمكن أن يشبهني مثله؟ أؤرخ للإمام علي بن أبي طالب، وتغنّي لي أم كلثوم ويلحّن لي عبد الوهاب واسمي جورج”.

تغيّر الجنوب قبل أن يرحل. مربّعات الالتقاء صارت فواصِل في الخواصر. تلك الهوية العفوية التلقائية العميقة تكاثرت عليها العناصر والفوارق. كان خطيب عاشوراء في النبطية، كل عام، بولس سلامة على عصاه، أو إدمون رزق خطيب الكتائب أيضاً. هذا العام احتفلت الضاحية بذكرى الحسين في مربّعها المُغلق خوفاً من تسلّل الآخر. لم يعد شيء عفوياً وصادقاً ومتشاركاً. لا شيء. “شركة ومحبة” لم تستطع جمع السياسيين حول الهرم الأول من رأس مال الشركة: رئاسة الجمهورية.

المؤسسات التي بناها جيل ما بعد الحربين، الأولى والثانية، لم يعد لها معنى أو مقام. الموارنة يبحثون عن حقوقهم في آبار النفط والغاز وليس لديهم ما يعرضونه على الآخرين سوى “القانون الأرثوذكسي”. قانون يفصلهم عن أنطون سعادة وقسطنطين زريق وخليل حاوي وفؤاد بطرس. هل تعرفون مَن كان شخصية العام في احتفالات “تكريم” في مراكش هذه السنة؟ كان غسان تويني. وقد قال رجا صيداوي في خطاب التكريم: “فات المغرب أن يكرّمك حياً، وهذا شيء من اعتذار، لطالما اختلفنا في سياستك وأبداً على مكانتك”.

في أزمان مضت، كان الشعراء هم من يصنعون العهود في الأمم. لذلك عندما سُئل ديغول عن شاعره المفضّل قال: دعوا أولئك الأمراء في سكينتهم، لا أولوية بين واحد وآخر. وفي حروب نابوليون المجنونة في كل مكان، كان الأمر الأول للجيوش، إياكم وحرمة الشعراء.

في 14 تشرين الأول 1806 بدأت معركة فيمار حيث كان يقطن شاعر ألمانيا، غوته. فلما صارت القذائف تمرّ فوق منزله، خرج إلى الحديقة يتمشّى في عصبية. وتَروي سيرته أنه مع ازدياد القصف دخَل المنزل وصعد ألى الطبقة العلوية. وبعد قليل دخل الفرنسيون البلدة، وجاء إلى المنزل ضابط شاب على رأس فرقة ليؤكّد للشاعر أن منزله لن يتعرّض للنهب.

قدّم النبيذ للضابط ورفاقه، غير أن هذا طلبَ لقاء الشاعر نفسه. قيل له إنه نائم. أصرّ هو وفرقته يريدان لقاء الشاعر. ارتدى “روبه” ونزل بكل مهابته إلى الصالون فيما وقف العسكريون احتراماً وقد بدأت الخمرة تمرجحهم.

ابقوا الشعراء خارج حروبكم. كان قصر بعبدا شاغراً بارداً فلم يُرسل إلى كاتدرائية الروم وساماً أو إكليلاً. لبنان جورج جرداق شاغر من فحواه، وجذوره مبعثرة. و”الثورة العربية” التي مرّت في مرجعيون بزعامة سلطان باشا الأطرش تحوّلت اليوم خراباً على مدى الأمة. وقد غادر الشعراء من متردم، فليس من يرثيها.