كأنّ المواطن اللبناني لا تكفيه الأمراض والأوبئة التي تُهدّد صحته نتيجة التلوّث المحيط به، وكأن لا يكفيه ما يُعانيه من ذلّ على أبواب المستشفيات وما يُثقل كاهله من ظروف معيشية صعبة ووضع اقتصادي خانق، حتى تأتي أزمة الأرز المستورد الملوّث بكمية من المبيدات غير مسموح بها دولياً، لتهدّد لقمة عيشه وتسلبه آخر ما تقوى عليه قدرته الشرائية. إذ علمت «الجمهورية» أنّ كمية من الأرز المستورد تسللت إلى الأسواق اللبنانية بعدما رُفضت من دول مجاورة وأوروبية لمخالفتها المعايير والسلامة الغذائية.
حتى لحظة اتصال «الجمهورية» بمدير عام وزارة الزراعة لويس لحود لأخذ موعد منه مساء 30 تموز 2018 لتسليط الضوء على موضوع الارز المستورد وما يُرافقه من مشكلات، كان قرار إخضاع الأرز المستورد وغيره من المنتجات كالشاي والمتّه والفواكه… الى فحص ترسّبات المبيدات لم يُوقّع بعد، وبعدما تم الإتفاق على الموعد صباح اليوم التالي أي في 31 تموز، زفّ لنا لحود خبر توقيعه القرار منذ الصباح ورفعه إلى الوزير غازي زعيتر الذي بدوره وقّعه، واضعاً خاتمة سعيدة لأشهر من الأخذ والرد والإحالات المتبادلة بين الوزارة ومجلس شورى الدولة، بعدما طلبت الوزارة أخذ رأي الشورى، إلى حين تم الإتفاق على صيغة نهائية للقرار وإجراء التعديلات التي «بمعظمها كانت لغوية»، وفق ما أشار إليه لحود في استقباله لنا في مكتبه في الوزارة قبل أن يُحيلنا إلى المصلحة المعنية.
في الكواليس
«يا ريت بيتنفذ اليوم قبل بكرا». عبارة تختصر ردود فعل بعض أصحاب المختبرات والخبراء الزراعيين الذين تحدثت إليهم «الجمهورية» حول قرار إلزام المستوردين بإخضاع الأرز لتحليل متبقيات المبيدات، بعدما كان لا يخضع سوى لفحصين منذ العام 2012، وهما الجرثومي والسموم الفطرية.
ومن بين هؤلاء الذين قصدناهم، الدكتور رامي خضر في مختبره، وهو صاحب مختبرات RBML المعتمد من قبل المنظمة الدولية لتجارة الحبوب والأعلاف (GAFTA) ومن قبل وزارة الزراعة اللبنانية، الذي قال: «منذ أكثر من عام والإنذارات الدولية تتوالى حول وجود متبقيات مبيدات في الحبوب خصوصاً الارز كونه يُزرع في المستنقعات المائية الزراعية ويُرش بشكل دوري.
كذلك أتت دراسة صادمة في آخر مؤتمر عُقد في كانون الاول 2017، في براغ حول ترسبات المبيدات في الارز المستورد إلى دول الاتحاد الاوروبي، واتُخذ قرار في هذا المؤتمر بإلزامية التحليل مع توصية بالتشدد لدول حوض البحر المتوسط بالتنبه وتبليغ الجهات الرقابية الدولية».
ترسبات تتخطى المسموح
ويحذّر خضر من آلية استخدام المبيدات قائلاً: «في بلاد المنشأ ونظراً للتغيرات المناخية يرشون الأرز بالمبيدات لحماية المحاصيل والاسراع في إنتاجها، بطريقة أحياناً تفوق النسب المسموح بها أو بمواد غير مصرّح بها حسب منظمة الاغذية الدولية ومنظمة التجارة للحبوب والأعلاف.
ومن ضمن تلك الانذارات التي وردتنا أنّ شحنات من الأرز نجحت في الدخول إلى لبنان مستفيدة من غياب إلزامية فحص ترسبات المبيدات، بعد منع إدخالها في عدد من البلدان».
ويتابع: «وبما أنّ مختبرنا معتمد من الـ GAFTA (المنظمة الدولية لتجارة الحبوب والأعلاف)، تحرّكنا وقمنا بفحص عيّنات من الارز المستورد منذ مطلع العام الجاري، وتبين ان بعضها فعلاً يحتوي على متبقيات مبيدات بنسب تتجاوز المعايير التي حددتها لجنة دستور الغذاء Codex alimentarius (http://www.fao.org/fao-who-codexalimentarius) والاتحاد الأوروبي، وأبلغنا وزارة الزراعة التي شكّلت لجنة علمية لتتحقق من المعلومات».
ويضيف: «من جهتنا إستمرّينا بفحص الأرز المستورد بعلم الوزارة ومن دون أن نحمّل المستورد كلفة التحليل، علماً انها لا تتجاوز الـ120 ألف ل.ل. وقد تبين أن عددا لا يستهان به من العينات يعاني من ترسبات مبيدات بكميات كبيرة ويدخل إلى لبنان».
ويكشف خضر عن واحدة من تلك العينات التي تضمنت نتيجة تحليلها متبقيات مبيدات بشكل يفوق الحد الاقصى المحدد دولياً، والمرفقة مع النص: «إذا نظرنا في النتائج يتبين لنا أنّ العيّنة تضمنت (mg/Kg) 4.343 من ترسبات المبيد الكيميائي Carbaryl الذي يُرش على محاصيل الأرز، علماً انّ الحد الاقصى من الترسب المسموح به دولياً (MRL: maximum residue limit).
لا يجب أن يتجاوز (1mg/Kg)، وفق لجنة دستور الغذاء، وتضمنت أيضاً نوعاً ثانياً من ترسبات مبيد (mg/Kg 5.023) Dichlorvos، فيما الحد الاقصى المسموح به من المتبقيات (mg/Kg 0.15).
أما بالنسبة إلى التداعيات الصحية لتلك المبيدات، فيقول خضر: «لو لم تكن مضرّة بصحة الانسان ما كانت لتحدد منظمة الاغذية الدولية حداً أقصى للمتبقيات، بصورة عامة تتسلل المبيدات السامة إلى الجهاز الهضمي عن طريق الخضار، الفواكه الملوثة، الأرز، الشاي، المَتّه… وتسبب العديد من الأمراض، وذلك بحسب نسبة تعرّض المرء للنوع نفسه من السلعة الملوثة. على سبيل المثال، أن يتناول المرء مرة واحدة في الشهر منتجاً يحتوي على ترسبات مبيدات، فإنه قد لا يتضرر مثل الذي يدخل في نظام غذائه طبقاً شبه يومي ملوثاً بالمبيدات. فأي عائلة لبنانية قد يمضي عليها 3 أيام من دون أن تتناول الأرز؟ وما يزيد تلك المخاطر انّ الارز يدخل في وجبات الغذاء، وفي الحلويات، وفي مجموعة واسعة من المنتجات.
إسراع مشبوه بأمره
لا ينكر خضر انّ القرار الذي صدر حديثاً يُعالج المشكلة على المدى البعيد، ولكن «في الوقت الراهن وعلى المدى المتوسط، هناك مشكلة أكبر لا يجوز التغاضي عنها، وهي كمية الارز في الاسواق والارز المخبّأ والمكدّس في المستودعات»، فيسأل: «ماذا بالنسبة إلى الأرز المعروض في الاسواق والذي تبيّن من عيّنات أخذناها منه انه لا يراعي السلامة الغذائية؟ لا بد من آلية لسحب غير الصالح منه، على غرار دول أجنبية، حيث يدرك التاجر أين وزّع بضائعه».
في سياق متصل، يلفت مصدر خاص لـ«الجمهورية» إلى «انّ بعض المستوردين ما إن شعروا بعمل وزارة الزراعة على إصدار قرار يلزمهم بفحص متبقيات المبيدات، حتى سارعوا إلى عقد صفقاتهم وإدخال شحناتهم وتكديسها، إستباقاً لمنعهم من إدخالها إلى لبنان».
ويتابع: «بعض هؤلاء اشترى شحنات من الأرز بسعر أقل من الكلفة الاصلية نظراً إلى انها رفضت في دول أوروبية، ليبيعها بسعرها الطبيعي في لبنان. على سبيل المثال باخرة الأرز التي كلفتها 200 ألف دولار، قد يلجأ صاحبها إلى بيعها بـ50 ألف دولار في أقرب فرصة بدلاً من أن تعود الباخرة بحمولتها إلى بلد المنشأ، وبذلك يحدّ من حجم خسائره، فيكون المستورد الرابح الاكبر، نظراً الى أنه يشتري الارز بربع سعره ويبيعه في الاسواق اللبنانية كأنه «رز باب أول»، فتكون صحة اللبناني أوّل ضحية.
لذا، المؤسف انه إلى حين صدور القرار الذي طال انتظاره وإلى حين البدء في تطبيقه، دخل الى لبنان ويدخل ما يكفي من الأرز وغيره من المنتجات المخالفة لسلامة الغذاء والمعايير الدولية».
وزارة الزراعة
بحسب الأرقام التي حصلت عليها «الجمهورية» من وزارة الزراعة، يظهر انّ استيراد لبنان للارز يزيد سنوياً. ففي العام 2016 إستورد 68.612 ألف طن، وفي العام 2017 نحو 90 ألف طن، وحتى حزيران من العام الجاري 40.603 ألف طن.
أما أكثر البلدان تصديراً الى لبنان فهي الهند وتايلند والصين. على سبيل المثال بلغ الأرز المستورد من الهند في العام 2016 نحو 13 ألف طن، و21 ألف طن في العام 2017، وحتى حزيران 2018 نحو 7 آلاف طن. في هذا الإطار، يلفت محمد أبو زيد مدير الثروة الزراعية إلى انّ «هذه الكمية ليست حاجة لبنان الفعلية إنما قد أضيف إليها كميات الأرز التي تدخل كمساعدات إلى اللاجئين السوريين».
أما عن دور وزارة الزراعة في عملية الإستيراد، فيوضح أبو زيد في حديث إلى «الجمهورية»: «يتم الكشف بداية على «الكونتينرات» وحالتها، وإذا تسللت المياه إلى داخلها أو العفن. وهنا وقد تُرفض البضائع من النظر.
أما إذا وصلت بحالة جيدة، يقوم ممثل وزارة الزراعة في الحجر الصحي بالتأكد من أوراق الحمولة وشهادة الصحة النباتية للمنتج، فيأخذ عيّنات من كل «كونتينر» وترسل إلى مختبر معتمد من الوزارة، وتكون كلفة الفحص على عاتق المستورد.
فإذا كانت نتيجة الفحصين المعتمدين الجرثومي والسموم الفطرية أدنى من المعدلات المحددة بحسب لجنة دستور الغذاء codex Alimentarius يسمح للأرز بالدخول، وبعدها تنتهي مسؤولية وزارة الزراعة، أي انّ عملية التخزين والتوضيب والبيع في الاسواق لا تقع على عاتقنا».
أما رئيسة مصلحة الاستيراد والتصدير في وزارة الزراعة المهندسة رانيا حايك، فتعتبر «انّ القرار أكثر من ضروري بعدما أخذنا عينات من الأرز وحللناها، وتبيّن وجود ترسبات مبيدات مرتفعة في الأرز مقارنة مع المعايير المسموح بها دولياً.
لذا، بعد تطبيق القرار، إنّ أي شحنة ترفض 3 مرات سنبلّغ بلد المنشأ عن وجود جهة مصدرة لديها لا تراعي الشروط، ولا تملك الخبرة، وممنوع عليها إرسال مواد إلى لبنان». وتؤكّد حايك «انّ الشحنات التي، وإن نجحت في التحليل الجرثومي والسموم الفطرية، سترفض إذا رسبت في تحليل المبيدات».
الحل؟
من جهتها تعتبر نائب رئيس جمعية المستهلك الدكتورة ندى نعمة في حديث لـ«الجمهورية»، «ان ليس المهم إصدار القرار بقدر أهمية مراقبة تنفيذه والتشدد في تطبيقه، فالدول المصدرة عندما تلاحظ تراخياً تتساهل وترسل منتجات لا تراعي المواصفات الدولية، كذلك لا القرار ولا التشدد في تطبيقه قد يكفيان، ولا بد من التأكد من سلامة الأرز عبر إجراء مسح شامل، يقضي بأخذ عيّنات أرز من الاسواق على امتداد الاراضي اللبنانية، للتأكد من سلامتها، فصحة المواطن «مش مزحة».
وتضيف: «يستورد لبنان أكثر من 85% من المواد الغذائية، لذا لا بد من تعزيز آلية المراقبة وتوسيعها والتعاون بين الوزارات المعنية وجمعيات المجتمع المدني والمواطن»، مشيرة إلى «أهمية الاستفادة من المختبرات الرائدة المتوافرة في لبنان والاستفادة منها ومن خبرتها».
ختاماً، وسط التحديات التي تواجهها حماية المستهلك في محاربتها التلاعب بالاسعار والزيت المضروب والدجاج الفاسد… تبرز قضية الأرز المخالف لسلامة الغذاء، لتتضاعف تلك التحديات والمخاطر المحدقة بصحة المستهلك.
وإذا كان يتعذر سحب الارز المنتشر في الاسواق والتدقيق في عيّنات منه، فلا بد من آلية لمنع تسلل الارز وباقي السلع والمنتجات التي شملها القرار حديثاً، والمكّدسة في المستودعات، إلى الاسواق، وإلّا يكون المواطن اللبناني «أكَل الضَرب». فهل من سيتحرك؟