Site icon IMLebanon

تسمّم الخطاب

فاجأ عدد المشاركين الكبير في التجمع الاحتجاجي يوم السبت الماضي في وسط بيروت على سياسات الحكومة اللبنانية في مجالات الخدمات المنظمين والمشاركين انفسهم. فبعد أعوام من انحسار اعداد المستعدين للوقوف ساعات قليلة للتعبير عن موقف من قضية عامة، الى بضع مئات، ارتفع العدد الى آلاف عدة.

لا يضاهي الرقم التقديري للذين نزلوا الى ساحة الشهداء الارقام التي تجذبها مهرجانات وخطابات وإطلالات زعماء الطوائف وقادة التيارات المكرسة، لكنه يقول شيئاً عن درجة الاحباط والاحتقان السائدة في اوساط اللبنانيين الذين يرون اوضاعهم المعيشية تتدهور بين ليلة وضحاها من دون القدرة على وقف التراجع او حث السياسيين (المنتخبين ديموقراطياً؟) على تحمل مسؤولياتهم الأبسط والأكثر بداهة في توفير نظافة الشوارع والكهرباء والأمن، ما داموا يقرون بعجزهم عن الاتيان بأي خطوة اصلاحية جدية كتمرير قانون عصري للانتخابات او حتى التوصل الى تسوية سياسية موقتة كانتخاب رئيس جديد للجمهورية واحياء المؤسسات الدستورية المصابة بموت سريري.

بيد أن ايجابية التحرك ودلالته على قدرة اللبنانيين على تجاوز الانقسامات الطائفية والمذهبية المتفاقمة، اصطدمت بمفاجأة من نوع مختلف. وفي الوقت الذي كان المنظمون والمتحدثون من منبر التجمع والأكثرية الساحقة من المشاركين من فئات الشباب، كانت الكلمات التي قيلت تنتمي الى اجيال ماضية. ردد الخطباء دعوات الى استقالة وزير قصّر في اداء واجباته. وهذا كلام حق. ثم انغمس بعضهم في استعادة حرفية لمواقف وعنجهية زعماء الطوائف باطلاق تهديدات فارغة واستخدام لغة القوة (المتخيلة، في حالة شباب التجمع البيئي) في أفضل تعبير عن وفاء لا واعٍ لدروس القيادات الطائفية في كيفية الحشد والتعبئة والتحريض.

لا يهمنا في قليل او كثير كيف يستخدم منظمو تجمع ضد تراكم النفايات في الشوارع قدراتهم البلاغية. لكن المهم أنهم اخفقوا في الارتقاء الى مستوى مختلف في التعامل مع قضايا مختلفة. لم يأت الجمهور لسماع تهديدات باقتحام مجلس النواب ولا الى ذلك الكلام الخفيف عن «مندسين» بين المشاركين، بل للبحث عن أمل ولو صغيراً في قدرة المجتمع المدني اللبناني على الخروج من دهاليز الطوائف والممولين والمنتفعين.

بكلمات ثانية، يمكن الحديث هنا عن «تسمم الخطاب» (والمقصود بـ «الخطاب» هو التعبير عن وعي ومصالح وثقافة). لقد زحفت سموم الخطاب الطائفي باستعراضيته ونزعته المنطوية على التلويح بالعنف، الى اساليب التفكير عن شرائح واسعة من اللبنانيين الذين كان يفترض بهم ان يمثلوا شيئاً آخر غير ما يعرضه قادة المذاهب المتناحرة طوال ايام الاسبوع.

وعندما يكون الخطاب نتاج الوعي والمصالح ووسائل تحقيقها والدفاع عنها، تبدو الكلمات التي ألقيت هزيلة بالمقارنة مع المعاناة التي يعيشها اللبنانيون وسط حالة من الشعور بخيانة السياسيين للتفويض الممنوح لهم، مرة لتمديدهم لأنفسهم بذرائع الخشية على انفلات الأمن، ومرة ثانية لفشلهم في القيام بمقتضيات التفويض حتى لو كان مُصادراً من طريق الخداع للتغطية على افلاس عميم.

المشكلة التي يشير اليها خطاب ضعيف من النوع الذي اظهره المنظمون، تتلخص في سلامة المجتمع اللبناني ذاته وقدرته على انتاج ادوات للخروج من المآزق التي يقيم فيها منذ اعوام، من جهة، وفي حقيقة تخلي اللبنانيين عن قياداتهم التي تدفعهم الى أسوأ السبل.