الطابع المحتبس للتوازن الكارثي على الطريقة اللبنانية، والموت السريري للمؤسسات الدستورية، يجعلان السؤال «متى الانتخابات»، رئاسية كانت أو تشريعية، في علم الغيب.
الأفضل، لبرهة، التعويض عن اندثار المواسم الانتخابية عندنا، بشيء من التعليق على الاستحقاقين التشريعيين الأخيرين، في بولندا قبل اسبوع، وفي تركيا بالأمس. في الاستحقاقين ما يعنينا كلبنانيين «بلا انتخابات». وليس تماماً، هذه المرة على الأقل، من ناحية التشوّق لصناديق الاقتراع عند سوانا، والتحسّر على غيابها عندنا، بل من ناحية ما يوفره الاستحقاقان من مشهدين ممانعين بازاء «الفكرة اللامركزية»، في الوقت نفسه الذي تبين فيه الأزمة اللبنانية، ومن بوابة مشكلة النفايات، الحاجة للدفع نحو اللامركزية. وحده التنبه الى ان «اللامركزية» ليست «حتمية تاريخية»، وان الصراع معها وضدها سياسيّ تماماً، وكليّ الراهنية، يمكنه تفعيل النقاش حولها، وتسييسه.
في كل من الانتخابات الأخيرة في بولندا (بحسب موعدها الطبيعي)، وتركيا، (انتخابات مبكرة جداً بعد أشهر قليلة على فشل الاستحقاق السابق في الخروج بأكثرية مطلقة أو تشكيل ائتلاف حاكم)، انتصر حزبان محافظان. «الحق والعدالة» في بولندا. «العدالة والتنمية» في تركيا. النظام الانتخابي كان نسبياً في الحالتين (على مستوى الغرفة السفلى، الدييت، من البرلمان البولندي، في مقابل الدائرة الأكثرية بالتصويت الأكثري على مستوى مجلس الشيوخ).
في الحالتين، أكثرية مطلقة نالها الحزبان المحافظان، الكاثوليكي والإسلامي. مع فارق: هذه أول مرة ينال حزب الأكثرية المطلقة في البرلمان البولندي منذ سقوط الشيوعية، في بكّر بالانتخابات في تركيا لفشل «العدالة والتنمية» في نيلها «كما المعتاد».
فارق آخر: نجح اليسار التركي، ممثلاً بـ«حزب الشعوب» ذي الصبغة الكردية، في تخطي العتبة التي تؤهله للتمثّل البرلماني، في مقابل «صفر مقعد» لكافة اليسار البولندي.
ما يجمع بولندا وتركيا هو بقاؤهما على نموذج الدولة المركزية. طبعاً، بمقادير مختلفة. فالدخول الى الاتحاد الأوروبي، استدعى الخطو باتجاه اللامركزية في بولندا، أقلّه لاجتذاب الأموال الأوروبية الى السلطات المحلية. ورغم ان بولندا الحالية مجتمع متجانس اثنياً الى حد كبير – بخلاف تركيا، ينظر الى اللامركزية فيها بريبة، بل ان الحزب المنتصر فيها الآن، خاض المعركة، في وقت واحد، ضد تدفق المهاجرين، وتشكيكاً بالاتحاد الأوروبي، وضدّ الاجهاض وزواج المثليين والمساكنة، لكن أيضاً للتضييق على برامج الخصخصة وانشاء وزارة مكافحة فساد، ولوضع عراقيل أمام التوجهات اللامركزية التي تبناها الليبراليون.
في تركيا، « العدالة والتنمية» ليست متشدّدة أيديولوجياً قدر تمسك الحزبين القوميين الأتاتوركيين بالدولة المركزية. يبقى ان السمة السلطانية لزعامة أردوغان، والنظام الرئاسي الذي يدعو اليه، ونجاحه في انتزاع الأكثرية مجدداً، يعيد تشبيه مآل الاستحقاقين: قطع الطريق أمام التطور اللامركزي لتركيبة الدولة، وتفضيل «النموذج النابليوني» ادارياً، من موقع محافظ، له هوية دينية، اسلامية أو كاثوليكية، وليس من موقع جمهوري علماني، كما درجت العادة.
فاذا كان مآل الأوضاع في اوروبا الغربية ينحو صوب الدولة اللامركزية أكثر فأكثر، أي الدولة التي تنقل المسؤوليات من السلطة المركزية الى السلطات المحلية والاقليمية، وتستغني عن التنميط الأحادي لتطبيق القوانين وادارة الخدمات، وتقرّ الاستقلالية القضائية الاقليمية في فضاءات محددة، فإنّ «الممانعة أمام اللامركزية»، قوية جداً في بولندا وتركيا، وتحت شعار رفض الفدرالية هناك أيضاً، ولم تعد تحملها قوى تربط مركزيتها بالأيديولوجيا التقدمية، انما بالأيديولوجيا المحافظة.
في المقابل، يتميز «حزب الشعوب» اليساري التركي بربطه بين الحريات والتعددية الاثنية وبين تفكيك السمة المركزية الشديدة للدولة، ويستمد قوته من دائرته الكردية. في بولندا، اللامركزية تبناها أساساً يمين الوسط الليبرالي، كونها من لوازم الخصخصة، والمعايير الأوروبية.
في تركيا، من يحمل راية اللامركزية حالياً، تقدميّ يساريّ، لكنه سياسياً واثنياً «طرفيّ». في بولندا، اللامركزية تطرحها قوة ليبرالية خسرت الانتخابات حالياً، لكنها تطرحها بشكل ثانوي، وغير اجتماعي، غير مرتبط بتحسين شروط العيش والسكن، الأمر الذي سهّل الانقضاض عليها، من على يمينها، ومن قبل من يطالب بمركزية الدولة والكنيسة والعائلة وحماية الفقراء واقفال الحدود أمام المهاجرين.
في لبنان، بخلاف «الحق والعدالة» و«العدالة والتنمية»، ما عاد هناك من قوة سياسية «ميتا-شهابية»، يمكنها الدفاع بشكل جدي عن مركزية الدولة، وكل طرح من هذا القبيل هو تغلّب فئوي، أو مكابرة عبثية. في الوقت نفسه، هذا يجعل المطلب اللامركزي مائعاً هو الآخر، في غياب خصم جدي صريح له. اخراج المطلب اللامركزي من هذه الميوعة، بصقله دستورياً واجتماعياً، يصير اذاك تحدّياً عسيراً وصعباً، قدر ما هو ضروري. يصلب عود المطلب اللامركزي حين ينقسم النقاش السياسي حوله، وينقسم النقاش السياسي حوله حين تظهر المسألة بهذه القطبية: إما التغلبية الفئوية، معطوبة المركزية، وإما التحرّك اللامركزيّ، المدعّم بالصياغتين الدستورية والاجتماعية لكل طرح سياسي اصلاحي.