IMLebanon

السياسة قبل الرغيف

تمارس السياسة في لبنان، من قبل السلطة أو المعارضة، من دون اعتبار لآثار الصراع السياسي على الواقع الاقتصادي والاجتماعي. خلافاً لما يقال عرضاً في البيانات والمساجلات، آخر اهتمامات المعنيين أن تؤدّي مواضيع الصراع وأساليبه إلى تراجع أوضاع لبنان أو إلى إفقار أبنائه.

لمّا اشتعلت جبهات السياسة مؤخراً على نحو مثير للقلق، ووصل الانقسام إلى شفير العنف، بقيت الأولوية للعصبيات ومقتضيات الصراع. نخجل من القول إن تغليب العصبيات على المصلحة الاقتصادية للمجتمع هي سمة البلدان المتخلفة، ونحن، مبدئياً، مجتمع يتمتع بمستوى مرموق من التعليم ومنفتح على الأفكار والحضارات والثقافات.

في خضمّ التوتّر السياسي الذي بلغ أعلى مراحله في الأسبوعين الأخيرين، طرح صديق مثقف ومجرّب أسئلة نظرية، استقاها من الكتب التي كنا نقرأها في زمن بعيد، زمن التمرّد والثورة.

قال: أليس النظام السياسي في خدمة النظام الاقتصادي؟ أليس السياسيون حرّاساً لرأس المال وحماة لمصالحه؟ أليست القاعدة الاقتصادية، بما فيها من علاقات ومصالح، هي التي تفرز النخب الحاكمة ودستورها وقوانينها؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف تدفع الطبقة السياسية، بكل عزيمتها، اقتصاد لبنان نحو الانهيار؟

لو كانت هذه الفرضيات النظرية صحيحة لكانت كل هذه الأسئلة مشروعة. فالمشهد الاقتصادي اللبناني بات مأساوياً وينذر بشر مستطير، والصراع السياسي لا يساعد على لجم جموحه نحو الأسوأ، بل يدفعه دفعاً، وبأقصى سرعته، نحو الهاوية.

المالية العامّة الغارقة في التخبّط والفوضى تسجّل شهراً بعد شهر، ويوماً بعد يوم، نتائج سلبية لا تؤثر على الدولة وحدها، بل على المجتمع اللبناني بأسره. تتراجع الإيرادات ويتزايد الإنفاق ويتعاظم العجز والدين العام قياساً بحجم الاقتصاد. التراجع التاريخي والمقلق في رصيد ميزان المدفوعات، لخمس سنوات متوالية، يعكس استنزاف اقتصاد لبنان واحتياطاته ويوجز برقم واحد تدهور السياحة والتجارة وهبوط الاستثمارات الخارجية إلى نصف ما كانت عليه في ظروف طبيعية. نموّ اقتصادي شبه معدوم يتلازم مع بطالة في حدود 25%، فيما أكثر من ربع السكان باتوا دون خطّ الفقر.

يقولون إن لبنان يحظى «بمظلة» إقليمية ودولية تحمي أمنه وتحول دون احتراقه باللهيب الذي يلتهم الأخضر واليابس في محيطه القريب. لا أحد يعرف ما هي هذه المظلة وما هو شكلها ولونها ومن يحملها ويرفعها فوق رأس البلد. يُستدلّ عليها باستمرار الاستقرار الأمني النسبي ولكن لا دليل قاطعاً على أنها موجودة بالفعل.

إلا أن الصورة الاقتصادية القاتمة، التي ترسم معالمها كل المؤشرات من دون استثناء، يمكن أن تقود البلد إلى اضطرابات ونزعات دموية، تلبس لباس الطائفية، ولكنها ناجمة في حقيقتها عن تزايد الفقر والحرمان وتبخّر شبكات الأمان التي تحمي المجتمع وأهله.

نجاح السياسة اللبنانية، النجاح الباهر، في ممارسة سلوك مدمّر اقتصادياً واجتماعياً من دون خسارة القاعدة الشعبية، أمر لافت للنظر. بل على العكس، كلما تمادت السياسة في التوتير وإثارة الغرائز كلما ازدادت حماسة «الجماهير» لأحزابها وأقطابها ورموزها. لا تلتفت الجماهير، المشار إليها، إلى تأثير السلوك السياسي على حياة الناس وسدّ سبل العيش أمامهم وصولاً إلى الإفقار والتجويع، بل يكتفي كل فريق طائفي باحتساب نقاط الربح والخسارة في مرمى الفريق الطائفي المقابل.

لم يشهد تاريخ لبنان الانتخابي «العريق» سقوط مرشح واحد بسبب الفساد أو الهدر أو بسبب سوء الأداء في المناصب النيابية والحكومية. ولكن هناك أمثلة لا تحصى عن «تبخّر» سياسيين أو اختفاء تيارات سياسية عارمة بسبب انتقال مشعل الصراع الطائفي من «بيت إلى بيت» أو من يد إلى يد.

هذا المجتمع لا تنطبق عليه المعايير التي تسمح بطرح التساؤلات التي بدأنا بها. إنها أسئلة لمجتمعات سياسية متطوّرة، وليس للبنان. ففي مجتمع متقدّم يُفترض أن تكون السياسة في خدمة المصالح الاقتصادية للمجتمع ككل، الفقراء والأغنياء ومتوسطو الدخل. هذه الوظيفة لا تقتصر على تجنب العنف وتلطيف أساليب الصراع وحسب، بل هي تشمل، في ما تشمل، حسن إدارة الشؤون العامّة في البلاد.

إدارة الشؤون العامّة؟ نعم. ومع أطيب التمنيّات بالخروج قريباً من مستوعبات النفايات.