خلف الدخان المنبعث من الإطارات المشتعلة في الشارع، تتدحرج الازمة السياسية والاقتصادية من دون ضوابط، فيما يواصل أطراف الخلاف على «حكومة التفليسة» تبادل الإتهامات الممجوجة بلا كلل او ملل.
يعتبر خبير اقتصادي ببطانة سياسية انّ الارتفاع في سعر الدولار لا يجب ان يكون مفاجئاً او مدعاة للاستغراب، لأنّ احدا لا يفعل شيئا من أجل معالجة الاسباب الحقيقية للازمة المالية – الاقتصادية، وبالتالي فليس هناك ما يمنع وصوله الى سقف العشرة آلاف ليرة وربما الى أبعد من ذلك مستقبلاً، في ظل مرحلة انعدام الوزن التي يمر فيها لبنان.
لا ينفي الخبير احتمال دخول عوامل طارئة على خط التلاعب بالدولار لاعتبارات مستجدة، سياسية او مالية، لكنه يلفت الى ان هامش التلاعب يبقى محدودا وظرفيا، ولا يلغي حقيقة ان الانهيار المتدحرج لقيمة الليرة يعود بالدرجة الأولى الى اسباب بنيوية ومتراكمة على المستويين المالي والاقتصادي، لافتا الى انّ هذا الانهيار هو في جوهره حصيلة عقود من سوء الإدارة والتصرف، ممزوجاً مع الفساد والهدر.
ووفق رأي الخبير، فإنّ سياسة تثبيت سعر الصرف على معدل غير واقعي (1500 ليرة للدولار) تتحمل نحو 80 في المئة من المسؤولية عن الانزلاق الى المأزق الراهن، مشيراً الى ان البنك المركزي والمصارف والدولة وجزءاً من المودعين المستفيدين جراء الفوائد العالية كانوا شركاء ولو بنسب متفاوتة في صنع الكارثة، «إذ ليس طبيعياً ان نضع كل اوراقنا في سلة الاقتصاد الريعي والاستهلاكي، من دون إيلاء اي اهتمام لإيجاد مخرج طوارئ او باب خلفي للنجاة اذا اندلع حريق اقتصادي، كأن يتم تفعيل القطاعات الانتاجية التي يمكن أن تجلب الدولار الى داخل البلد بدل ان تصل فاتورة الاستيراد السنوي الى نحو 20 مليار دولار كانت تُضخّ الى الخارج».
واللافت، تبعاً للخبير، انّ المواطن شارك في هذه اللعبة وبات مستوى معيشته يتجاوز الحدود المنطقية، الى درجة انّ المبالغ التي كان ينفقها اللبنانيون على سبيل المثال لتسديد رواتب العاملات المنزليات قاربت نحو 3 مليارات دولار سنوياً قبل الانهيار!
من هنا، يدعو الخبير الى التعجيل في وضع خطة متكاملة لخروج متدرّج وآمن من قعر الهاوية عوضاً عن استمرار الحفر فيها، كما يحصل حاليا، «لكنّ المشكلة هي انه ليس هناك لا من يقررون ولا من يخططون، مع غياب الحكومة الأصيلة التي تستطيع اتخاذ القرارات وتواضع دور الحكومة المستقيلة التي تكتفي بالحد الأدنى من تصريف الأعمال».
ويلاحظ الخبير انّ الهمّ الأساسي لدى معظم من هم في السلطة هو انقاذ أنفسهم ورمي كرة النار بعيداً منهم، «إذ المهم بالنسبة إليهم ان لا يحصل الطوفان على دورهم حتى لا يجرفهم معه». والمفارقة، تبعاً للخبير، انهم يطلبون من حاكم البنك المركزي ان يستمر في السياسات التي يتهمونها بالتسبب في الانهيار، من تثبيت سعر صرف الليرة الى استخدام بقايا أموال المودعين في الاحتياطي الالزامي لتمويل الدعم.
اما التدقيق الجنائي الذي يعتبره البعض مفتاح الحلول، فإنّ الخبير الاقتصادي ينبّه الى انه يجب تفادي المبالغة في التوقعات منه، لافتاً الى ان التدقيق يسمح بمعرفة حقيقة ما جرى في الماضي، لكنه لا يعالج ولا يحاكي تحديات الحاضر.
ويشدد الخبير على ضرورة خروج أصحاب القرار من دائرة ردود فعل تحت الضغط، ووضع رؤية واضحة لطريقة تفكيك الازمة والتصدي لها، الأمر الذي يتطلب بالدرجة الأولى تشكيل الحكومة.
ضمن هذا السياق، وإزاء التعثر المستمر في تشكيل الحكومة وتوجيه الإتهامات بالتعطيل والعرقلة الى قصر بعبدا، تنصح شخصية محسوبة على الخط السياسي لرئيس الجمهورية ميشال عون و»التيار الوطني الحر» بأن يبادر عون الى قلب المعادلة وخلط الأوراق، من خلال تغيير الاستراتيجية التي يعتمدها في التعامل مع الرئيس المكلف سعد الحريري.
وتخاطب هذه الشخصية عون بالقول: دع الحريري يتحمل المسؤولية. أعطه ما يريد حتى لا تبقى لديه ذريعة لتبرير العجز، ثم اتركه يتدبر أمره وتفرّج عليه، فإذا فشل في مهمته كرئيس للحكومة يتحمل هو وحده تبعات الاخفاق ويخضع الى المحاسبة امام الناس، واذا نجح في مهمته يُحسب النجاح لك ولعهدك أيضاً. وهكذا تكون انت رابح – رابح.
وتلفت الشخصية الصديقة للقصر الجمهوري الى ان البلد ينهار وبالتالي قواعد اللعبة القديمة تغيرت، ولم يعد جائزاً الاستمرار في مقاربة الامور كالسابق، من دون مجاراة التحولات الجوهرية التي بدلت الاولويات والهموم لدى كل اللبنانيين ومن بينهم الشريحة المسيحية.
وتضيف: لا قيمة لوزير بالزائد اذا لم يبق اصلاً مسيحيون يُهدى لهم هذا الإنجاز مع ارتفاع وتيرة الهجرة في صفوفهم ولا سيما في اوساط الشباب، ولا قيمة ايضا لثلث معطّل ما دام البلد كله أصبح معطلا بفعل الانهيار الواسع.
وتحذر الشخصية من ان كلفة الوقت الضائع على العهد أكبر بكثير مما هي على الرئيس المكلف، «صحيح ان الحريري يتضرر من تعثر التأليف في اعتباره الرئيس المكلف، ولكن الخاسر الأكبر هو رئيس الجمهورية لأنّ كل يوم يمر بلا حكومة إنما يُقتطع من المدة المتبقية للعهد، وبالتالي يذهب ولا يعود اي انه لا يُعوّض، اما الحريري فيمكن ان يشكل الحكومة في هذا العهد او في غيره كذلك، إذ انّ طبيعة موقعه في النظام تسمح له بأن يتنقّل بين المعارضة والسلطة، وما يخسره مع عون يمكن ان يعوضه مع رئيس آخر، خلافاً لواقع رئيس الجمهورية الذي ليست لديه من حيث المبدأ فرصة أخرى».
وفي النصف الآخر من الرسالة، تشدد الشخصية إيّاها على ان بيت الوسط مدعو كذلك الى التعاطي بمسؤولية مع المأزق الحكومي، وإطلاق المبادرة تلو الأخرى لمعالجته او أقله التجاوب مع تلك التي يطرحها الآخرون، بدل البقاء في موقع المنتظر.
وتشير الى انه بعد ارتفاع الدولار بشكل غير مسبوق وما رافق ذلك من احتجاجات شعبية، كان يفترض بالحريري ألّا يغادر الى دولة الإمارات تاركاً خلفه أرضاً محروقة، «بل كان عليه ان يتخلى عن كل الشكليات والحسابات ويتوجه الى قصر بعبدا، ولا يخرج منه إلا بعد التفاهم مع عون على تشكيلة وزارية، ولو تطلّب منه الأمر أن يأخذ «البيجاما» معه ويقيم في القصر حتى يتوصل وعون الى اتفاق».