IMLebanon

الحيوان السياسي

 

أعرف أنَّ العنوان مثـيرٌ، وأنه يُحدثُ في الآذان قشعريرة من الرفض، ونحن مِـمَّنْ يمـجُّون وحشيَّ الكلام، وانفلاتَ اللسان بالمفردات الفاحشة.
ولكنَّ موسم السفاهات يزدهر مع موسم الإنتخابات النيابية والنزاعات الدولية، فتهبط لغة المخاطبة الى مستوى القاموس السوقي.

ما لكَ إلاَّ أن تتابع ما ينـتشر على الشاشات وعلى صفحات التواصل الإجتماعي لتدرك حجم الإشمئزاز الذي تثـيره في النفس وحجم الإساءة الى لغة اللسان وفضيلة الأخلاق.

منذ أربعمئة سنة قبل الميلاد أراد أفلاطون أن يعمّم التلازم بين السياسة والفضيلة فأنشأ «الأكاديمية» لتربية سياسيين يختلفون عن الذين أثاروا في نفسه الإشمئزاز، فأخفقت أكاديمية أفلاطون ولا يزال السياسيون بلا تربية.

في تربيتنا السياسية كما في تربيتهم، ترى الهجاء «الكيميائي» يبلغ حـدَّ وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرئيس السوري بشار الأسد، «بالحيوان».
وقديماً، أدلى الرئيس ياسر عرفات بحديث الى مجلة «الأهرام الإقتصادي» (1982/1/18) قال فيه: مطلوبٌ من مصر أن تحمي ظهري من «الكلاب» العرب، وهو ما ردّده الرئيس محمود عباس عندما أطلق إسم «إبن الكلب» على السفير الأميركي في إسرائيل.

ومن أجل تبرئة ذمَّـة الرئيسين الفلسطينيين، لا بـدّ من الإشارة ، الى أنَّ كلمةَ «كلاب» تحمل تفسيراً مزدوجاً يتعارض بين الهجاء والمدح، حين يُقصَد به قبيلة «كلاب» العربية التي طار صيتُها في العصر الأموي الى جانب قبيلة «كعْب» أو قبيلة «أسد» وهو ما أشار إليه الشاعر جرير بقوله:

فغُضِّ الطرْفَ إنكَ مِـنْ نُـمَيْرٍ فلا كعباً بلغْتَ ولا كِلاباً

وإذا شئنا انْ نجد أسباباً تخفيفية للرئيس الأميركي في استعماله كلمة حيوان فلا بـدَّ أيضاً من الإستعانة بالفيلسوف أرسطو الذي يصف الإنسان، بأنه «حيوان سياسي».

وهو ما يؤكده استطراداً الصحافي البريطاني جورج أورويل «Orwell» الذي استخدم سلاح السخرية ضـدّ الديمقراطية ، فشبَّهها بمزرعة الحيوان، وأن كلَّ الحيوانات فيها متساوية.

ولم تقتصر مفردات المخاطبة السياسية على المخلوقات التي تـدِبُّ على القوائم الأربع، بل انتقلت الى المخلوقات التي «تـدبُّ» على القدمين وعلى ما تنتعل الأقدام من أحذية.

هكذا خاطب أحد الصحافيين العرب الرئيس الأميركي جورج بوش في أحد المؤتمرات الصحافية فرشقه بحذائه، وهكذا أصبح الحذاء أحد الوسائل الديمقراطية في التخاطب والتعبير.

أيها السادة:

تبرئـة الذمَّـة هي من قبيل ما يُعرَف في اللغة «بالأسلوب الإستنكاري» الذي يدين أكثر مما يبرِّىء ، ومَنْ قال إن ارتفاع حرارة المواجهات العسكرية والسياسية من شأنه أن يرفع حُمَّى الإسفاف بالأخلاق وبذاءة الكلام.

عند الشعوب العريقة يحدث العكس، المؤرخ البريطاني: أرنولد توينبي «Toynbee»… «يرى أن من مهام الجيوش ألاَّ يقتصر دورها على القتل بل أيضاً على نشر الآداب، ولولا الجيش البريطاني لما وصل شكسبير الى الهند».

مثلما أن ارتفاع حرارة السفاهات في الإنتخابات لا يؤدي الى النصر، في المواجهات ينتصر الفكر، وعندما يزني اللسان يزني الفكر، والإنتصار بالزنى هو انكسار رهيب.

عندما يشبّه أرسطو الإنسان بالحيوان السياسي فلا يعني الحيوانية البيولوجية، بل يعني حيوانية الطبع والغريزة في الإنسان.
بالمفهوم الفلسفي الإنساني عند أرسطو يصبح الحيوان فيلسوفاً…

وبالمفهوم الفلسفي الغريزي يصبح الفيلسوف حيواناً…

ويصبح السياسيون مزرعة من الحيوانات السياسية المتوحشة.