عاجلاً، أم آجلاً – عاجلاً، ستنتهي الحرب الإسرائيلية على لبنان. وإسرائيل، خصوصاً إذا فشلت في الاجتياح المحفوف بمخاطر لا قِبَل لها على تحمّلها «على الأرض» كما يبدو لعين المُدَقق، فإنها لن تُنهي الحرب إلّا بعد نكبةٍ في لبنان. لا التدمير نكبة ولا خسارة الأبرياء والمدنيين نكبة ولا وضعِ اللبنانيين جميعاً في قفص الاستنفار النفسي نكبة أمام النكبة الأكبر. والنكبة الأكبر في الاغتيال السياسي الذي لا يمكن أن تُطوَّق مضاعفاته. حتى الآن، المشاكل على الأرض منزوعة فتائلُها، من توتيرِ الأجواء بين النازحين وأهل المناطق المنزوح إليها، كما حصل في بلدة «أيطو» في زغرتا وبعض المناطق الأخرى، إلى بعض المضايقات المضبوطة بفضل وعي الناس بنسَب عالية لحساسية الواقع، ومعرفتهم بأهداف إسرائيل المضمَرة، غير أن اغتيال (لا سمحَ لله) شخصية سياسية تشكل زعامةً ما، في منطقة لبنانية لجأ إليها نازحون بكثافة، ويتم تحويل الجُرم إلى «حزب لله» أو الإيحاء بذلك، سيُحدث الكارثة بين أهالي المنطقة وأولئك النازحين. ومعروف أن لبنان واللبنانيين أرض «خصبة» لهذا النوع من الكوارث. وإذا كانت جرائم على مستوى العصر كلّه قد أُلصِقت اعتباطاً بحزب لله وصدّق كثير من الناس أنه ارتكبها (إنفجار مرفأ بيروت!) فإن جريمةَ اغتيالِ شخصيةٍ كبيرةٍ «يُسَهّل» القيام بردّة فعل عدوانية غاضبة وغير محسوبة وفالتة من العقل والموازين تجاه جمهورِ مَن يُتّهم أنه الفاعل حتى ولو كان بريئاً من رأسه حتى كعبِ قدميه.
ما يجعلُنا نحذّر من هذا الباب، أن حزب لله ما زال ثابتاً على الحدود مستميتاً لمنع الجيش الإسرائيلي من التقدم لحصد نتائج سياسية وعسكرية مريحة له، وهذا بيت القصيد، ويركّز ضرباته على المواقع العسكرية والأمنية في إسرائيل فيصيبها في الصميم، من أجل إحداث شرخ في المؤسسات العسكرية نفسها، وبينها وبين المستوى السياسي، وهذا يسبّب جنوناً لنتنياهو المستعجل على كل شيء… بينما تصرّ الطائرات الحربية العدوانية على استهداف المدنيين اللبنانيين جنباً إلى جنبِ استهدافِ مراكز عسكرية للحزب في كل المناطق اللبنانية، تحديداً الجنوب والبقاع والضاحية. فمخازن الأسلحة والصواريخ والمسيّرات التابعة للمقاومة مدفونة تحت الأرض بألف تمويه وتمويه، وما يروَّج على أنه مخازن لها، في بعض مشَاهد الضربات على البنايات أغلبه تركيبٌ وتلاعب بالصُّور. لكن الأخطر كان وسيكون في قصف بعض الأماكن التي تؤوي نازحين في مراكز تجمعات و عائلات، والتسبب بمقتل بعض أبناء المناطق الذين قد يكونون بينهم أو معهم أو حولهم. وردّة الفعل الشعبية في «أيطو» كادت تشعل جمراً بين قيادات في زغرتا، سليمان فرنجية وميشال معوّض، ووُئدت في مهدها بوعي الطرفين وأنصارهما بأن الوقت ليس للمزايدات أو للاستثمار السياسي في هذه المحنة الوطنية الكبرى. هذه الحادثة قد تتكرر في مناطق أخرى والهدف: إقتتال ودماء بين النازحين وأهالي المنطقة المستهدَفة بدعوى تسبُّب نزوحهم بإثارة المشاكل الناجمة أصلاً وفصلاً عن تدخّل إسرائيل المباشر بالمواطنين اللبنانيين على الأرض.
حسناً فعلَ سليمان فرنجية وميشال معوض في تفويت الفرصة على عدوّ احترف إثارة النعرات والحساسيات، ويمكن أن يتحول موقفهما قاعدةً وطنية عالية للآخرين إذا خضعوا لتجربة مماثلة!
على أن الأدهى بما لا يقاس هو الاغتيالات. الاغتيالات التي تُفقد السيطرة على نوازع الذات وعلى مَن يعنيه الموضوع وحتى على الجماعة التي ينتمي إليها المُغتَال بكاملها. ولحظة الموت فاجرة تحديداً في حالات القتل المركّب لأن الظنون تعمل في كل الاتجاهات دفعة واحدة، وتشوِّش على إعمال الوعي. ورغم أن الأنظار في حالات الحرب تتجه نحو العدوّ الذي قد يرتكب جريمة شنعاء في هذا التوقيت بالذات، وسيكون واضحاً أنه ارتكبها، ونواياه مفهومة، لكنْ سيكون صعباً لملمة جرح كبير بهذا الحجم إذا وقع في ساعة شيطانية هي اختصاصُ إسرائيل في السلم والحرب.
لستُ أمْنيّاً ولا أحب التكهنات ولا أتابع أصحابها حتى في المواسم السنوية والشهرية والأسبوعية واليومية، لكنّ دخول إسرائيل على هذه الصورة الخبيثة والإبليسيّة في البلد دعتني إلى هذا التنبيه.
فارحموا لبنان من حرب أهلية ستكون نصب عين إسرائيل لقلب الطاولة والكراسي والمكان والزمان على رؤوس أهله إذا وجدت أنها خاسرة في الميدان. الميدان قهّار في كل الحروب، مهما كانت الطائرات متوحّشة، وقد يلجأ العدو إليها لإكمال خريطةِ مشروعه للبلد. لذا نتوجّس من أفاعيل حرب أهلية هي الآن بيَد إسرائيل. بضربة واحدة قد تصنعها إذا استسلمنا لهواجسنا. وبيقظة وطنية قد نفشّلها. المهم نحن وما نفعل.
ونتنياهو من حين إلى آخر يسترجع تعبير «الحرب الأهلية» في لبنان. فهي كانت بالنسبة إليه وما زالت حلُماً يجعل لبنان منصرفاً إلى داخله بالدم والدم المضاد. وهذا «أفضل» وجوه التخلّص لا من المقاومة وبيئتها، بل من لبنان واللبنانيين بالنسبة إلى عقل «الإسرائيلياني» المريض!