من المعلوم في «علم السياسة» انه أينما كان الإنسان المتحضِّر فإنه يعيش في مجتمع منظّم يُعرف بـ»الدولة السيّدة» ذات السيادة التامة والناجزة، ويتمتّع الفرد بمجتمع ديموقراطي سليم خالٍ من أي عيوب يُتيح له العمل بالطرق الإنسانية المألوفة.
ومن المفترض أن يُساهم الفرد في تقرير حقوقه ومصير جاره وواجباتهما وفي إختيار حكامه ويُساهم أيضًا في تحديد السلطات التي يُمارسها هؤلاء الحُكّام. ومن وظائف «العلوم السياسية» أن تكشف عن المبادىء الواجب اتّباعها في الأمور التي تخص المصلحة العامة، وأنْ تدرس طريقة عمل الحكومات لتبيان ما هـو صالح، ونقد ما هو فاسد أو غير فعّال، وأن تقترح تحسينات. لهذا فإنّ معطيات هذه العلوم ونتائجها قد تكون ذات فائدة عمليّة واسعة لواضعي الدساتير والهيئات التشريعية والسلطات التنفيذية والسلطات القضائية الذين يحتاجـون إلى نماذج ومعايير يطبقونها على المواقف التي قد تطرأ أثناء الأداء السياسي، علمًا أنه من المفترض أن تكون ذات فائدة عملية واسعة للأوطان وللمؤسسات الشرعية وللشعوب المنضوية تحت راية هذه الأوطان.
«العلوم السياسية « تُوّصِف «السلطة» بمعناها العام انها الحق في الأمر وهي تستلزم آمرًا ومأمورًا وأمرًا له الحق المُطلق في إصدار أمر ما مدروس ذو موصفات قانونية ـ دستورية إلى المأمور ومأمورًا عليه واجب الطاعة للآمر وتنفيذ الأمر الموجّه اليه، هذا من حيث المنطق القانوني. السلطة وفق هذا العلم المذكور إنها علاقة بين طرفين مرضيّين يعترف الأول منهما بأنّ ما يصدره من أمـر إلى الطرف الثاني ليس واجبًا عليه إلاّ أنه صادر عن حق له فيه لا كما يحصل في الدول المتعثِّرة.
«العلوم السياسية» تعتبر أنّ الحق الذي تتقوّم عليه السلطة محدود من جهتين، الأولى هي مصدره والثانية هي ميدانه ونطاقه ومداه العملي والقانوني. فكل سلطة بين البشر تحتاج إلى تبرير، وكل سلطة مبرّرة إنما هي فعليًا سلطة في ميدان معيّن ربما يكون تشريعيا ـ سياسيا ـ دستوريا ـ عسكريا، قد تحتاجه البلاد في محطة ما. وهناك فارق بين التسلُّط والسلطة حيث التسلّط هـو انتحال للحق في الأمر من دون تبرير أو من دون تبرير كافٍ ومقبول ومُشرّع، وحتى هـو تجاوز للنطاق المعيّن للحق في الأمر… وفي حقيقة الأمر فإنّ العلم السياسي يعتبر في بعض الأحيان صعوبة إدراك الفارق بين السلطة والتسلُّط، وغالبًا ما يتمظهر التسلُّط السلطوي في الأنظمة الشمولية تحت حجج واهية.
علميًا إنّ مفهوم السلطة السياسية يتميّز بين أنواع القدرة التأثيرية أو العلاقة الأمريّة بصفته حقًا قائمًا بين إرادات حُرّة والمفهوم التطبيقي هو عموماً مفهوم الحكم النزيه، فالإنسان يُحكم بأشخاص أكفياء، أي منظومة سياسية تمارس سلطة على الناس بصفتها إرادة حُرّة تأمر شعبها للخير العام وتلتزم تجاه الإرادات الحرّة بتقديم الأفضل لا الأسوأ… ومفهوم السلطة السياسية هو نتاج سلسلة مفتوحة من القرارات في شأن مسائل وطنيّة من شأنها إقامة السلم والبحبوحة والطمأنينة والإزدهار وتقدُّم الشعوب. وعلى هذا الأساس يعتبر «علم السياسة» أنّ صفة الشرعية صفة من صفات ماهية السلطة، فالسلطة السياسية لا تكون سلطة بمعناها الحقيقي إذا كانت فاقدة للشرعية والشرعية لا تُضاف إلى السلطة كصفة ممكنة بل تتميّز كصفة ملازمة لها.
«العلوم السياسية» تعتبر أنّ مصادر السلطة هي الحق ولا سبيل لتجاوز الحقوق في النظر في مصادر السلطة السياسية التقيّة، إذ هي ملازمة لوجود الإنسان الحُـر في مختلف ميادين حياته. وهكذا يتبيّن أنّ مصادر السلطة في الحياة السياسية الصادقة ثلاثة، هي: الصدق في الممارسة ـ بُعد النظر ـ الإلتزام المُطلق في تطبيق القانون. هذه المصادر هي ما يجعل الأمر فعلاً مشروعًا بين البشر وفي بناء الأوطان على أسُسْ سليمة. ومن الواضح أنّ الصدق ومحبة الأوطان هما المصدران الأولان، إذ لا يصح التعاقد على السلطة إلا بين من يتمتّعون بالسلطة الطبيعية الصادقة الخالية من الإنهزامية، ولا يصح تفويض السلطة إلاّ من جهة مَن يتمتّع بمبادىء العلوم السياسية والخبرة.
«العلوم السياسية» تفرض في أحد أبوابها من أي مسؤول سياسي الإصغاء إلى صوت العقل لأنه الضمان الرئيسي لأي عمل سياسي منظّم، فإرادة العقل السياسي السليم لا تقع في الأخطاء التي تتراكم عند ممارسة أي منظومة سياسية معينة. فالإصغاء إلى العلم ومبادئه يُجنِّب الساسة الوقوع في الأخطاء القاتلة التي قد تؤذي الشعوب في مراحل معينة. إنّ فلسفة السلطة تهتم بالعقل السياسي الموزون أي كعلاقة أمرية مشروعة، فتبيّن ما تنطوي عليه وتُبرِّرْ القول بالعقل كسلطة وتحلِّل خصائص سلطة العقل السياسي السليم الخالي من أي تطرف وغوغائية توصّلاً إلى وضعها في نصابها الصحيح السليم بالنسبة إلى سائر أنواع السلطة ولا سيّما منها السلطة السياسية وما يتفرّع عنها من اختصاصات.
حدّد المجمع الفاتيكاني الثاني السلطة السياسية بـ»الفن الشريف جدًا والشديد الصعوبة…»، كما شدد البابا يوحنا بولس الثاني في العام 2000 في إطار الإحتفالات اليوبيلية التي نظمتها الكنيسة في حينه تحت عنوان «للبرلمانيين والسياسيين العاملين في الشأن العام» على أهمية أداء السلطة السياسية لمهماتها على أكمل وجه تيمّنًا بـ»توماس مور». وهذا يعني انّ السلطة السياسية في الدولة السيّدة من واجبها البدء بتطبيق القوانين وإرساء مبادىء العلم السياسي إنطلاقًا من الدساتير التي تمتزج فيها الأخلاق بالسياسة… وعمليًا تصبح السلطة السياسية المستقلة الراعي الرسمي لشؤون الدولة والرعية.