يتكرر مشهد المواجهة السياسية في لبنان عند كل استحقاق، هكذا يتدخّل الخارج وهكذا يُنفِّذ الداخل، فتتحوّل المواجهة بحُكم أدواتها وأهدافها ومرحلتها الى طائفية أو مذهبية، أحدها ثابت وآخر يتغيّر.
فبعدَ أن أخذت المعركة السياسية في المرحلة السابقة شكل الخلاف المذهبي “السني-الشيعي” الذي انعكس من المنطقة على لبنان، عادت لتأخذ شكل الخلاف الطائفي “المسيحي- المسلم” وتحديداً “الشيعي” في لبنان، والذي يأتي في سياق محاربة المقاومة ومحاولات خلق بيئة معادية لها في الداخل لتحقيق ما عجز عنه الخارج.
فلماذا وقَع الاختيار اليوم على البيئة المسيحية وإظهارها وكأنها بموقع مواجهة مع المقاومة أي مع “الشيعة”؟ وحقيقةً مَن يريد لها هذه الموقعية؟ ومَن يساهِم في تخويفها مِن الآخر وعزلها؟
فبعدَ أن تَحوَّل شكل الصراع الإقليمي وبات الشارع السُني يعيش أزمة مرجعية خارجية وزعامة داخلية خاصة بعد إقصاء الرئيس سعد الحريري من الحياة السياسية وعدم القدرة على ملء الفراغ الذي تركه خلفه، وبما أن الشارع الدرزي بزعامة جنبلاط ينأى بنفسه عن المشاركة في أي مواجهة حالية حتى هذه اللحظة، بقيَ الشارع المسيحي، فتبرّعت بعض زعاماته بإظهار صورة البيئة المسيحية وكأنها بمواجهة مع البيئة الشيعية وبعضهم استنسب في هذه المرحلة الحساسة أن يكون خطابه وموقفه شعبوياً من جهة ويبعث من خلاله رسائل من جهة أخرى…
وحده الرئيس ميشال عون مَن يتبنى خطاباً يتحلّى بالمسؤولية والحكمة حتى أنه يتميّز عن خطاب رئيس تياره وبيان تياره، تحديداً في الحادث الأخير، فيَظهر وكأنه يجمع الرجل الزعيم ورجل الدولة مع الرجل السياسي في رجل واحد، الذي وَجَدَ عبر التجارب أن المصلحة اللبنانية والمسيحية هي فقط بالتفاهم مع الآخر تماماً كما فعل مع حزب الله.
فالرئيس عون نقلَ المسيحيين من حالة جيوسياسية منعزِلة الى حالة جيوسياسية مَشرقية، فهو مَن اتخذ الخيار وتفاهَم مع حزب الله وزار سوريا وايران بمراحل حساسة ولحق به المسيحيون، تماماً كما يحصل عادة بين الزعيم وجمهوره، وليس العكس كما نرى في أداء البعض حالياً، وبما أن هذا الخيار لم يُعجِب المنعزلين من الأساس، عادوا وصعّدوا بإيعاز خارجي بمجرّد العودة للحوار بين الحزب والتيار وإمكان إعادة إحياء التفاهم بينهما من جهة ومن جهة أخرى بحال اتفقوا، لديهم القدرة على الإتيان برئيس بمعزل عن الخارج وهذا ما لا يريدونه.
لا يُنكِر أحد “الاستقرار” الذي أرساه هذا التفاهم في العلاقة بين الطرفين على مدى سنوات، وبخاصة أنه هو مَن ساهم بتعطيل وإفشال مشاريع الفتنة في أكثر من محطة، وما ان اهتز قليلاً حتى استغل المتربصون من الداخل والخارج هذه اللحظة، فوجَدوا فرصة لتحقيق أمرين: الأول: إعادة التفرقة بتوجيه خطاب تقسيمي وتخويفي مِن الآخَر، يُحاكي غرائز مكوِّن لديه منذ التأسيس قابلية للاستقلال عن الآخَر، فإذا عُدنا بالتاريخ الى الوراء نرى دائماً أن أكثرية القيادات المسيحية كانت لديهم توجهات انقسامية، والعقلاء الذين كانوا يعارضون هذه النزعة كانوا أقلية، فاللعب من قِبل بعض الزعامات المتطوِّعة والمنغلِقة والمنعزِلة على هذا الوتر، من الواضح أنه مطلوب وبخاصة أنه يترافق مع حملة إعلامية للترويج للفيدرالية بإعلانات مدفوعة، مدَعَّمة بخطاب تحريضي كبير أوصلنا الى المشهد الذي رأيناه بالكحالة مؤخراً والذي تمّت معالجته بخطاب عقلاني والذي بيّن أن إظهار هذا التنافر بين المكوِّنات مبالغ به إعلامياً لتحقيق أهداف ومشاريع شخصية تتعارض مع مصلحة لبنان والمسيحيين تحديداً.
أما الثاني فهو إشاعة أجواء لدى المسيحيين لها علاقة بوضعهم في المرحلة الحالية الذي يُشبه وضع مكوِّنات أخرى بمراحل سابقة، فالسُنة قبل الطائف كانوا يعانون التهميش والشيعة كانوا يعانون الحرمان، أما اليوم فانتقلت هذه المعاناة مجتمعة لدى المسيحيين.
لكن رغم كل هذه المحاولات وكل ما يُبذَل مِن جهود وأموال، تعلَم البيئة المسيحية بأغلبيتها أن مَن يُشكِّل خطراً عليها هُم بعض زعاماتها الذين يتّخذون خيارات ضد مصلحتها ويتوجّهون إليها بخطابات التفرقة والتهميش والانعزال، ومَن يقوم بتخويفها مِن الآخَر أيضاً بعض زعاماتها. ومَن يريد أن يعزلها عن الآخَر بعض زعاماتها، وأن المقاومة التي خبروها بالتجربة خلال سنوات هي أكثر حرصاً وأماناً عليها منهم وأنها هي التي حمتها وما زالت تحميها مع كل اللبنانيين بدفاعها عن لبنان بوجه العدو الصهيوني والتكفيري وبحفظها الدائم في الداخل للسلم الأهلي.