قبل أيام أقامت روسيا وفرنسا مأتماً لدفن رفات 126 جندياً فرنسياً وروسياً سقطوا خلال انسحاب حملة نابوليون بونابرت عام 1812 على روسيا. في احتفال رسمي بدت الدولتان معنيتين بأن تلاحقا حقيقة وجود رفات مقاتلين سقطوا في روسيا قبل مئتي عام. منذ انفجار المرفأ، في الرابع من آب الفائت، وتنفيذ عمليات اغتيال، وانتشار الفوضى الأمنية، تبدو السلطات السياسية والأمنية كأنها غير معنية بسقوط شهداء وضحايا ومصابين، ولا بالحقيقة التي تفتش عنها العائلات التي باتت كأنها عبء ثقيل على الجهات الرسمية، كما كان يجري مع عائلات المفقودين في الحرب التي كانت تواجه بصمت السلطات المتعاقبة. لكن التجاهل لا يقتصر على عدم إعطاء أجوبة واضحة، بل يتعداه الى تجاهل حجم المخاطر الناتجة عن الانفلات الأمني الذي أصبح له أكثر من وجه.
هل الترهل الأمني وليد لحظة الانهيار السياسي العام، أم هو نتيجة التعثر داخل المؤسسات الأمنية؟ بضع ملاحظات نبعت من الأشهر الأخيرة التي سجل فيها الحضور الأمني تراجعاً بقدر ما ارتفعت حدة الاستحقاقات التي يعيشها لبنان، والمخاوف التي تتحدث عن تركه ساحة للعبث بأمنه، تزامناً مع انفجار الخلافات السياسية. فحتى في مرحلة التظاهرات والملاحظات التي سجلت على أداء القوى الأمنية على خطها، بقيت هالة ما تعطي لهذه القوى نفوذاً وحضوراً في المشهد العام. لكن هذا الامر تبدل جذرياً بعد آب وحصول عمليات اغتيال، كما انتشار الجرائم والحوادث الأمنية المتكررة في مناطق مختلفة، بعضها مرتبط بخلايا داعش كجريمة كفتون، وإلقاء القبض على مجموعات إرهابية كما حصل أخيراً في البقاع، لأن من اللافت أن تحصل الجرائم والانفجار والاغتيالات، ولا يخرج جهاز أمني بوضوح ليتحدث عن حجم المخاطر الأمنية وليقول ما عنده من معلومات، وأنه موجود وحاضر بقوة في التحقيقات وفي ملاحقة خلفيات العمليات التي وقعت، أو حتى ليقول إنه لم يتوصل الى شيء. لا بل إن صمتاً يسود في بعض الأجهزة بشأن ما يجري، مع تراجع في أدائها في قضايا أساسية لافتة.
بعد أكثر من جريمة وقعت، خرج وزير الداخلية محمد فهمي ليقول إن التحقيقات في عهدته، لكنه لم يعلن عن أي أمر جدّي حتى الساعة. والسؤال هنا لا يتعلق بقوى الأمن وحدها لكونها مكلفة بمتابعة هذه الجرائم والتحقيق فيها، لأن حجم العمليات الأمنية ومناطق وقوعها لا تتعلق بجهاز واحد، بل بكل الأجهزة الأمنية، بما فيها الجيش والأمن العام، التي كانت تعنى عادة بملفات أمنية حساسة، وبدأت تتراخى لصالح انشغالات أخرى. هناك مناطق متروكة أمنياً، لا لدوريات ولا لمتابعة ولا لأي حضور أمني لافت.
من أول انعكاسات التدهور السياسي، علاقة القوى الأمنية بالسلطات السياسية. ولأن كل جهاز أمني يخضع لتأثيرات الفريق الذي يتبعه وللخلافات التي يعيشها مع أي فريق سياسي آخر، فإن أول الارتدادات المباشرة يظهر في أداء المؤسسات الأمنية سلباً أو إيجاباً. من علاقة الجيش بالعهد وبالتيار الوطني الحر، وكذلك الأمر بالنسبة لجهاز أمن الدولة، وعلاقة الأمن العام برئيس الجمهورية وبالثنائية الشيعية، وعلاقة قوى الأمن الداخلي بالرئيس سعد الحريري. هذا عنى في مرحلة الانهيار السياسي الأخيرة أن التضعضع تسلل الى هذه المؤسسات، فانعكس ذلك على أدائها الأمني. ومع تفاقم الأزمة وحالة الانهيار التي تعيشها السلطات الرسمية، فإن الأداء الأمني سجّل تراجعاً أيضاً. مع تسجيل مفارقة انغماس قادة الأجهزة الأمنية في ملفات سياسية محلية، بعضهم لدواع طموحات شخصية تتعلق بمستقبله السياسي بعد الأمني، وبعضها لضرورات تتعلق بملفات لها بُعد إقليمي ودولي، ما يجعل من الصعب ملاحقة القضايا اليومية أكثر فأكثر.
في موازاة ذلك، شهدت أجهزة أمنية خلافات داخلية، وبعضها تغييرات في مرحلة حساسة حافلة بالاستحقاقات، ومن الطبيعي أن تتأثر دورة العمل الروتينية، حين تعيد الأجهزة هيكلة قطاعاتها ومسؤوليها، من أجل إعادة الإمساك بزمام الامور. لكن طبيعة العمل الأمني تفترض أن يكون استمرارية، خصوصاً حين تكون القاعدة الأمنية صلبة ومتماسكة، تتأقلم مع تغيير القيادات الأساسية. في المقابل، ثمة تسليم أمني بأن حجم المواجهة الأمنية صار كبيراً، من اغتيالات وجرائم وسرقات وتفلت أمني واسع، يرافقه انكسار عامل الردع الأمني أمام الناس. ما حصل في بيروت خلال المواجهات وبعدها في طرابلس، نموذج عن حاجز الخوف الذي لم يعد موجوداً في ردّ فعل الفرد تجاه الأداء الأمني. لكن الخطورة تسجل في مكان آخر. فحين ترتفع نسب التجاوزات الأمنية في البقاع مثلاً، رغم رفع مستوى الاستنفار الأمني تجاه الشبكات المتهمة بارتكاب جرائم سرقات وخطف وتعديات، فهذا مؤشر أبعد من مجرد انكسار عامل الخوف.
صحيح أن الأجهزة الأمنية مقسمة قطاعات وكل واحدة، ولا سيما التي تعنى بالشأن الأمني، منفصلة، لكن هناك جانب ايضاً من تشتت القوى الأمنية والعسكرية، ناجم عن انغماسها أيضاً في تدابير تنفيذ الحجر الصحي، ونشر الحواجز لتسطير المخالفات، وتوزيع المساعدات الغذائية والمالية وحماية المصارف، وغيرها من الأمور التي يفترض ألا تتم على حساب الغاية الأساسية من وجود هذه المؤسسات، وهو أمن الناس أولا وآخراً. وهذا أصبح على المحك، في وقت لا يظهر فيه أن هناك من يجري مراجعة جدية لما يحصل، في غياب الرقابة السياسية الفاعلة.