تتشابك الأطراف السياسية والحزبية مع بعضها البعض حول الملفّات الوطنية المطروحة، وتتصاعد المواجهات السياسية والخطابات والمواجهات الإعلامية، لتنتهي في آخر المطاف، إمّا بتفاهمات أو بالاستحقاقات الانتخابية، حسبَ الأنظمة المعمول بها، وتلتزم جميع الأطراف الوطنية بنتائج القواعد الدستورية، أي بقواعد الحفاظ على السيادة الوطنية. فقواعد الاشتباك بين أطراف الوطن الواحد تسري حسب قواعد سيادة المؤسسات فقط. هذا هو الواقع في المجتمعات المُستقرّة التي سلّمت أمرها لمفاهيم بناء دولة المؤسسات، وحوّلت معاركها السياسية إلى تنافسات لتدعيم الخطط الإنمائية والتطويرية والضرائبية، ولم تعد معاركها تدور حول المصير والهوية والوجود، فكسبت بنتيجة ذلك استقراراً اجتماعياً، وفرصاً كبيرة لحلّ مشاكلها وأزماتها، ولتحصين حياة شعوبها. ولكن في الدول التي تنفصل فيها قواعد الاشتباك عن القواعد السيادية، وترتبط بقواعد خاصة بمشاريع فئوية وإيديولوجية، كما يحصل الآن في لبنان، مع مشروع «حزب الله»، لا استقرار يُرتجى، ولا بناء لدولةٍ حقيقية يُؤمل، وتبقى القاعدة الوحيدة الثابتة في هذه الدول، المسار التخلّفي.
إنّ احترام القواعد السيادية يمنع الحاجة للصدام الداخلي المرير والقاسي والمُدمِّر للوطن، ويُحصِّن البلاد بالركائز الضرورية لفتح المجال أمام الحلول على قواعد العدالة الاجتماعية وعلى مبدأ الحرّيات والديمقراطية والاعتراف بالهواجس المُشتركة، وكما قال جون رولز في كتابه «نظرية العدالة»، «مهما كانت النظرية كفوءة وجيّدة التشكيل فلا بدّ من إصلاحها أو إبطالها إذا كانت غير عادلة». ولكن لكي تُسنح الفرص لتقييم النظرية ولتبيان أحقيتها وعدالتها أو عكس ذلك، فلا بدّ من احترام القواعد بين أفرقاء الوطن، ولذلك، من البديهي أن يخضع جميع الأطراف لقواعد السيادة والدستور والقانون والديمقراطية والحرّية في التعبير والاختيار، ولتكافؤ الفرص في التأثير.
تختلف الآراء والطروحات وتتشابك الأطراف مع بعضها في العديد من البرامج، وتهاجم بعضها البعض، وتوجّه الاتهامات لبعضها البعض، وتحمّل بعضها البعض مسؤوليات الفشل والإضرار بالمصلحة العامة، ولكن عندما تصل الأمور إلى حدّ التخوين، فذلك يعني أنّ القواعد السيادية قد سقطت، وأضحت وجهة نظر، وذات مسألة خلافية، ولا تعود اللحمة والاستقرار إلى الوطن، إلا بالعودة إلى قواعد السيادة فقط، والتوقّف عن اعتماد قواعد التخوين. وها نحن في لبنان اليوم، نخوض معارك يومية، بين أفرقاء يعملون على خرق قواعد السيادة، وأفرقاء يسعون للحفاظ عليها، وآخر المعارك كانت محاولات إسقاط قائد الجيش، والتي خاضها فريق «حزب الله» بالتعاون مع رئيس «التيار الوطني الحرّ» النائب جبران باسيل، الذي أدخل نفسه في حربِ تهديد لقواعد الأمن القومي، بدل الارتكان إلى الاستقرار الأمني.
وبهدف تحضير محور المُمانعة تسويات ما بعد حرب غزّة، ولاستقبال الضغوطات الدولية الهابطة عليه لتنفيذ بنود القرار الدولي 1701، ولأجل التمويه عن أعماله المُدمّرة لقواعد السيادة، سعى لرمي اتهامات الانصياع لمُخطّطات الخارج، على الفريق المُعارض له، الذي يقف سدّاً منيعاً بوجه مؤامراته، فأصبحت القواعد السيادية بالنسبة إليهم، خيانة، أمّا قواعد الاشتباك التي تحرص عليها الدويلة مع إسرائيل، فهي القواعد الحميدة. فقواعدهم تقضي دائماً، بفتح الحدود ما بين القواعد اللبنانية وقواعد النظام الثوري الإيراني، وإغلاقها ما بين القواعد اللبنانية وقواعد المجتمع الدولي الصديق والداعم للأمن والسلام وللجيش والشعب اللبنانيين.
قواعد السيادة الوطنية معروفة، ولا تحمل جدلاً وفذلكات، بل تنطلق من مبدأ احترام أسس النظام، أي الدستور. وأيّ تشاطر على بنوده وروحيته، يُعدّ خرقاً لقواعد السيادة، ولا يمكن تنفيذه إلا باكتمال مواقع سيادة الدولة، من رئاستها وحتى أصغر موظّف فيها، أمّا إخضاع الدستور للحسابات السياسية الخاصة السلطوية، فذلك يعني ضرباً لكلّ مفاهيم الدولة، وهذا الأمر يقوم به في لبنان الطرف الذي يحترم ويحافظ على القواعد العسكرية التي وضعها مع إسرائيل، ولا يحترم قواعد الاشتباك الوطني مع الأطراف اللبنانية الأخرى، عندما خرقها، بشلّه المؤسسات، وباستخدامه السلاح، وبتعطيله الاستحقاقات، وبمحاولته تفريغ الجيش الوطني وإضعافه.
إنّ من لا يحترم قواعد السيادة الوطنية، قادر على الالتزام بقواعد الاشتباك مع أعداء الوطن.