طغت على الخطاب السِّياسي بعد إقرار اتِّفاق الطائف ولم تَزل لغة تخاطبٍ هابطَةٍ بكُلِّ مَقاييسِ وأعرافِ أدبيَّات التَّخاطب السِّياسي، لغةٌ أقلُّ ما يُقال فيها أنها غير لائقة، اكتسبها السِّياسيون في لبنان من بعضِ ضُبَّاطِ المخابراتِ الذين تولوا تنفيذَ الوصايةِ السياسَة على لبنان. طَغى على تلك الأدبيات بذاءة التَّعابير المُستعملةِ والتَّهديدات المُبطَّنة، والإتِّهامات المُفبركةِ والإيحاءات التَّخوينيَّة واستعادَةِ مُفرداتِ الحرب الأهليَّةِ المقيتة، وغالباً ما كانت مقرونةً بمواقِفَ حادَّة أو زلَّات لسان انفعاليَّة ومُتسرِّعة، تقابلها ردودٌ مُتشنِّجة.
هذا الهبوطُ في أدبيَّاتِ السِّياسَةِ في لبنان أسفرَ عن قلب الأمور رأساً على عقب، بحيث أُعلِيَ من شأن التَّافهين والسُّفهاء وأحِطَّ من قَدرِ العاقلين والموزونين، وصُدَّقَ الكاذبون وكُذِّبَ الصَّادقون وأتُمِنَ الخائنون وخوِّن الوطنيون؛ وأضحى العديدُ من المنابرِ الإعلاميَّة محتكراً لعددٍ من الشَّتَّامين، ومسخَّراً للتَّهشيم بأصحاب المبادئ الإنسانيَّةِ والقِيَم الوطنيَّة، إلى حد أصبح الإستماعُ إلى نشراتِ الأخبار والبرامجِ الحِواريَّة أمراً مُقزِّزاً يَصعُبُ على كِرامِ النُّفوس مُتابعتُها.
تأتي خطورة استعادةِ هذا الخطاب الهابط في كون لبنان يمُرُّ في مرحلةٍ مِفصليَّةٍ فائقة الحساسيَّة على المُستوى الدَّاخلي نتيجة عجز القوى السِّياسيَّة الفاعلة في إنجاز الاستحقاق الرئاسي وإنهاء حالة الشُّغور في سدَّة الرئاسة والتي مرَّ عليها ما يزيد عن السنة والنُّصف، ورغم ذلك ما زالوا يتبادلون تقاذف التُّهم بالتَّعطيل، في الوقت الذي نحن في خضمِّ حربٍ شرسة مع العدو الإسرائيلي مهيَّئة للإنفلات على مصراعيها في أيَّة لحظة. وما يقلقنا يتمثَّلُ في أن الزُّمر المُتحكِّمةُ بالحياة السِّياسيَّة لا تُبدي استعداداً لأيَّةِ تنازلات تجاه بعضها البعض، إلى حد دفع بالبعض للاعتقادِ أن الفراغ في المؤسَّساتِ الدُّستوريَّة وسيلةً لتحقيقِ مكاسبَ فئويَّة، وهذا أدّى ويؤدّي إلى تُفويت الفُرصِ المُتاحةِ للخروج من المأزق الحالي، وإجهاض المُحاولات التَّوفيقيَّة والمُبادراتِ الإنقاذيَّة.
المحاذيرُ لم تعُد تقتصرُ على الاستمرار في أدبيَّاتٍ سياسيَّةٍ غير مقبولة أخلاقيًّا، إنما ثمة مَحاذير تكمنُ في استنهاض أدبيَّات الحرب الأهليَّة وإبداء العنتريات في الوقت الذي لبنان قاب قوسين أو أدنى من الإخراطِ في حربٍ مُدمِّرة. هذه الحرب تتطلَّبُ وحدة المواقِفِ الدَّاخليَّة تجاه العدو، رغمَ تباين مواقف المكونات السِّياسيَّةِ الدَاخليَّةِ من جدوى الإنخراطِ فيها أو إفساح المجال للعدو لتوسيع رُقعتها وإفلاتها من الضَّوابطِ التي لم تزل تحكُمُها.
كل ذلك يستوجبُ من جميع الأطراف الدَّاخليين تليين مواقِفهم تجاه الإنتخابات الرئاسيَّة، والعمل على إنجازه بأسرع وقت ممكن، ولا سيَّما أن الرئيس العتيد لن يكون قادراً على تغيير وجهةِ لبنان ولا توجُّهاته المُستقبليَّة، وأن المطلوب يتمثَّلُ في انتخاب رئيس قادر على جمعِ المُكونات الوطنيَّةِ وتعزيز التَّماسُك ووحدة الصَّفِّ الدَّاخليين، والعمل على تجنُّب الإنزلاقِ في حربٍ واسعة، وتحضير الأجواء للبدء بعمليَّة إصلاحٍ جزريَّة شاملة ومتكاملة، تجعلُ لبنان مهيَّئاً لعمليَّةِ تَعافٍ مرحليَّةٍ، والجهوزيَّةِ للإنطلاق بعمليَّة النُّهوض المنشودة في كافَّةِ المَجالات وعلى كل المُستويات وبنحوٍ مُستدام.
المطلوب إذن حسن النَّوايا، والعمل على إعادة ترميم الثِّقةِ المُتبادلةِ التي هشَّمتها المواقف الحادَّة والخطاباتُ الجارحةُ، والتَّجرُّدُ من الأنانيات، وتقديم تنازلات مُتبادلة تمهيداً لإتمام الاستحقاق الرئاسي بأسرع وقت ممكن وقبل فوات الأوان. ويُفضَّل أن تتم العمليَّة وفق روحيَّة الدستور، لأن الاستمرار في هذا التَّخبُّط السِّياسي معيب وضار وغير مُجدي.
من غير المقبول عقلاً أن بلداً ما يخوضُ غِمارِ حرب، مع عدو صلفٍ يفوقُهُ قدرةً من حيث الإمكانات العسكريَّة، ومعظمِ مُكوناتِه السياسيَّةِ مُفكَّكة، لذا يتوجَّبُ على أصحاب الحل والرَّبطِ في لبنان العملَ سريعاً على نبذ الخِلافاتِ الدَّاخليَّةِ لتفويت استغلالها من قبل العدو كمواضع ضعف في لبنان؛ وهذا يملي على الفريقين الأساسيين المتواجهين سياسيًّا في لبنان (فريق ممانع وآخر سيادي) البدء بعمليَّة نقد ذاتي وتفهُّم كل منهما لهواجس الآخر، كما الإقلاع عن كل ما يزيدُ الفِرقَةَ في ما بين المكونات الوطنيَّة. لأن الإستمرار في الإنقسام السياسي القائم ليس من مصلحة لبنان ولا من مصلحة أي من الفريقين. وعليه يتوجَّبُ على الطَّرف المُمانع وبخاصَّة الثنائي الشيعي أن يبادرَ إلى إعادةِ النَّظرِ في منهجهِ الإزدرائي في تعاطيه مع الأطراف الآخرى، وإبداء مرونةٍ في مقاربة الملف الرئاسي ومعالجةِ مسألة الفراغ في المؤسَّساتِ الدُّستوريَّة، وتفعيل المُساءلة السِّياسيَّة والقضائيَّة ومُلاحقة كبار المُرتكبين جزائيًّا، وفي المُقابل على الفريق الآخر أن يتوقَّف عن توجيه الانتقاد للمُقاومَةِ واتهامها بأنها تعمل وفق أجندة خارجيَّة أوصلت لبنان إلى عزلة دوليَّة، وأن يشكِّلَ ظهيرًا سياسيًّا لها في قتالها مع العدو وبما يوحي له أن لبنان متماسكاً وصفاً واحداً وجه تعدّياته، وتأجيل النقاش في القضايا السياسيَّة الخلافيَّة لحين وضع الحرب القائمة أوزارها.
وعودةً إلى الاستحقاق الرئاسي، أضحى واضحاً أنه لم يعد من الحِكمةِ رفض كل ما يُطرح من مبادرات، والإستعاضة عن ذلك بإبداء تعاونٍ إيجابي تجاه بعض المُبادرات التَّوفيقِيَّةٍ، والمشاركةِ الصَّادقةِ في إيجادِ مخرجٍ سياسيٍّ للأزمةِ الرئاسيَّة يحفظُ كرامة الجميع ويجنِّبهم الشعور بالإنكسار أو الخِسارة، وهذا يملي تجنُّب المواقفِ المُتَّصلِّبةِ تجاه مُبادرات الحلول المطروحة سواء كانت خارجيَّة أم داخليَّة المنشأ وإن كنَّا نفضِّل الثانية، وإبداء بعض التَّنازُلات باعتبارها تضحيةً في سبيل الوطن، والبحث عن كيفيَّة دستوريَّةٍ عمليَّةٍ ومرضية، بحيث توجَّه دعوةٌ لجميع أعضاء مجلس النُّواب للمشاركة بجلسة لانتخاب رئيس للجمهوريَّة، تُستهلُّ بمُداولةٍ سِريَّةٍ تشاوريَّة يتبادلُ على الكلام خِلالها من يرغبُ من أعضاء المجلس بحيث تُخصَّصُ مدَّة 5 دقائق للنائب المُستقل، و20 دقيقة لممثلي الكتل يعرض فيها المتكلم لما يراه مناسباً بما في ذلك المزايا الأمثل التي يفضَّلُ توفُّرُها في شَخصِ الرئيس العتيد المنوي انتخابه، بعدها تُحوَّلُ الجلسَةُ من السِّريَّةِ إلى العلنِيَّةِ ويُعلنُ عن بدء دورات الاقتراع «مع احترام سريَّة الاقتراع» واحدة تلو الأخرى لحين انتخاب رئيس للجمهوريَّة، بأغلبيَّة موصوفة ثُلثي الأعضاء في دَورة الاقتراع الأولى، وإلَّا بالأكثريَّة المُطلقة في أيٍّ من الدَّورات التي تليها.
ومنعاً من تولُّدِ أيَّةِ هواجِسٍ أو مَخاوفٍ لدى فريق تجاه الآخر توحي باعتماد مناوراتٍ إلتفافيَّةٍ قد تُطيحُ بالتَّوافق على تمرير الإستحقاق الرئاسي وانتخاب رئيس طرف وفق الإنقسامِ القائم، يمكن اعتمادُ الآليَّةِ الأخلاقيَّة التاليَة:
أولاً: إقرارُ جميعِ الأطراف والكُتل النِّيابيَّة التزامَها بحَصرِ نشاطات مجلس النُّواب في عملية انتخاب رئيس للجمهوريَّة دون أي نشاط آخر ولحين انجاز عملية انتخاب الرئيس العتيد.
ثانياً: توجيه دعوة لأعضاء المجلس النيابي إلى جلسة لانتخاب رئيس للجمهوريَّة بعد مهلة أسبوع.
ثالثاً: قيام الكتل النيابية والنواب المُستقلين بمشاوارت داخليَّة وأخرى ثنائيَّة ما بين بعضهم البعض.
رابعاً: تبنّي كل كتلة ترشيح من ترى فيه أهلاً لتولي منصب رئاسة الجمهوريَّة، مع الإعلان عن جهوزيَّتها لانتخاب أي شخص يحظى قبولاً من أكثريَّة الكتل البرلمانيَّة وأنه مهيّأ ليحظى بعدد من الأصوات تمكّنه من الفوز بالرئاسة بأكثريَّة دستوريَّة (أكثرية موصوفة «ثلثين» في دَورة الاقتراع الأولى ومطلقة في باقي دَورات الاقتراع).
خامساً: حصر التَّصويت في الدَّورة الأولى في الأسماء التي أُعلِنَ ترشيحِها من قبل النُّواب قبل انعقاد جلسة الانتخاب.
سادساً: حصرُ التَّصويت في دورات الاقتراع التالية بالمرشحين الثَّلاثة الذين يحوزون على أكبر عدد من الأصوات في الدَّورة الأولى (منعاً من حصر الانتخاب بمرشحين تحكمهما الاصطفافات الثنائيَّة، وترك فرصة لمرشَّح توافق).
يبقى القول إن فُرَصَ تمرير الاستحقاقِ الرئاسي دائماً مُتاحة، ولكن يُفضَّل أن تُجرى بناءً لمُبادرة داخليَّة ومُباركة دوليَّة – عربيَّة، وإن الإستمرار في الاستنكاف عن القيام بهذا الواجب لهو أمرٌ مُشين أخلاقيًّا ووطنيًّا.