إنّ تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية التي رافقت حقبة ما بعد الحرب الأهلية وبداية التطبيق الاستنسابي لدستور الطائف في لبنان، طَرح على العديد من قادة الرأي ومؤسسات المجتمع المدني مسألة البحث في أسباب تلك الأزمات التي تفجّرت بسببها وبأبهى صورها ثورة 17 تشرين. وإلى اليوم ينقسم معظم مراكز الأبحاث وقادة الرأي من المهتمين باستقرار لبنان دولة وشعباً، وبتطوّرهما وتقدّمهما، إلى اتجاهين في تحديد أسباب تلك الأزمات المستحكمة بالبلاد والتي تتحلّل بسببها إدارات الدولة بعدما تعطّل فيها معظم المؤسسات الدستورية، من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة إلى القضاء.
الاتجاه الأول: يعيد تلك الأسباب إلى البنية الدستورية غير المناسبة للنظام، ويجنح إلى الدعوة للفدرلة التي تستبطن التقسيم، أو البحث عن صيغ لتأبيد الفدرلة الطائفية في السلطات المختلفة وفي إدارات الدولة.
الاتجاه الثاني: وأنا بالتأكيد من فريقه، يرى أنّ الأزمة تكمن في نظام الحوكمة وليس في النظام وبنيته الدستورية المعدّلة وفق اتفاق الطائف، أي في تركيبة المنظومة الحاكمة، التي استساغت صيغة المحاصصة الطائفية، في توزيع المناصب والمكاسب في مختلف القطاعات بما في ذلك الإعلامية والتربوية والصحّية على حساب مصلحة الدولة الوطنية والشعب برمّته، وبما كان يتناسب مع مصلحة سلطة الوصاية السورية التي امتدّت لخمسة عشر عاماً وورثها التحالف الرباعي ومن ثم تفاهمات مار مخايل والدوحة ومعراب وبيت الوسط. وهو تحاصص يمثّل انعكاساً لما كان عليه الوضع من توزيع للنفوذ والمكاسب بين الأفرقاء في الميدان إبّان الحرب الأهلية. فلجأت منظومة التركيبة الحاكمة إلى تطويع الدستور والقانون تحت بدعة الديمقراطية التوافقية، وحكومات الوحدة الوطنية، وابتداع أعراف جديدة من ميثاقية وغيرها، لتلبّي مرامي أفرقائها في قسمة الجبنة وتحاصصها.
وبالعودة السريعة إلى تفحّص أساس بناء الدولة في لبنان نكتشف أنّ نقاط ضعفه، تكمن في صيغة الميثاق الوطني غير المكتوب بين الراحلين بشارة الخوري ورياض الصلح بإعلان دولة الإستقلال عام 1943 على أساس التوزيع الطائفي للسلطات من جهة، وتمركز كل السلطات فعلياً بيد رئيس الجمهورية الماروني عرفاً من جهة أخرى. فكان رئيس الجمهورية قبل دستور الطائف، هو من يعيّن رئيس الحكومة ومن يوقّع على مرسوم تشكيلها، وهو من يتمتّع بصلاحية حلّ المجلس النيابي، بمعنى آخر كان يحكم من دون أن يُحاسب، سلطاته مطلقة ومبرمة.
هذه الصيغة التي بُنيت على معادلة 6 و5 مكرر بين المسيحيين والمسلمين، وتطوّرت إلى معادلة 6 و6 مكرر في عهد الرئيس فؤاد شهاب، يهتزّ استقرارها مع أي هبّة ريح إقليمية أو دولية. فشهدت البلاد بظلّها من العام 1943 وحتى العام 1989 ثلاث حروب أهلية، واحدة باردة في العام 1952، وحربين ساخنتين في 1958 و1975، وميني حرب مذهبية في العام 2008.
وجاء اتفاق الطائف بعد حرب أهلية امتدّت لخمس عشرة سنة، ليضع يده على الجرح اللبناني النازف، فأدخل على النظام البرلماني الديمقراطي ونظام فصل السلطات القائم تعديلات دستورية جوهرية، تنقل صيغة الميثاق الوطني من التحاصص الطائفي وهيمنة فريق على آخر في السلطة، إلى صيغة الوفاق الوطني، التي تؤسس لبناء دولة المواطنة العادلة وليس دولة الطوائف، وتحديداً في ما ورد في المادتين 95 و22 في الدستور. ووفق ما جرى الاتفاق عليه في الطائف، كان يتوجّب على المجلس النيابي المنتخب عام 1992 أن يحوّل الدولة في لبنان إلى دولة مدنية، بترجمة المادتين المذكورتين إلى قوانين تطبيقية، بإقرار الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وإلغاء طائفية الوظيفة بالكامل، بإلغائها من الفئة الأولى، وإقرار اللامركزية الإدارية، ونظام المجلسين، المجلس النيابي خارج القيد الطائفي، ومجلس الشيوخ الذي تتمثل فيه الطوائف بالتساوي.
ولأنّ تنفيذ ذلك كان يتناقض ويصطدم مع طبيعة نظام الوصاية السورية وكذلك مع طبيعة ومصالح ورثته من الأحزاب الطائفية، فأقدموا على تعطيل الدستور، واستنسبوا تطبيقه، بتجاهلهم الإصلاحات الدستورية الجوهرية، فوقعت المحاصصة الكبرى، وشهدت البلاد بسبب ذلك أكبر نُهبة ليس لها مثيل في التاريخ، حيث ما يقارب 90 مليار دولار هي ودائع ومدخرات اللبنانيين قد تبخّرت في أحدث نظام مصرفي في الشرق الأوسط إلى جيوب وحسابات مافيا السلطة وأسرهم وحاشياتهم وأصحاب المصارف، فأوقعوا البلاد بأزمات لا أمل بالخروج منها إلا بإخراجهم من السلطة ومحاسبتهم على ما اقترفوه من جرائم بحق الشعب والوطن.
هل هذا ممكن التحقيق؟
من وجهة نظري، أن لا خيار غير ذلك إذا أردنا بقاء لبنان كدولة للبنانيين وليس للطوائف، واستفدنا من تجربة دولة الطوائف التي زالت في إشبيليا. وأثبتت ثورة 17 تشرين وجود قاعدة شعبية وازنة تتبنّى دستور الطائف ودولة المواطنة المدنية، وترجمت خيارها هذا بحوالي أربع مئة ألف صوت في صندوق الاقتراع عام 2022، رغم سوء قانون الانتخابات المشوِّه لصحة التمثيل، وبغض النظر عن أداء نواب التغيير بإيجابياته وسلبياته، غير أنها كانت تجربة يُحتذى بها.
وطالما أنّ سبيلنا الوحيد للتّغيير هو الانتخابات النيابية، لإيصال كتلة نيابية وازنة مؤمنة بدولة القانون والمؤسسات المدنية الديمقراطية السيدة والعادلة، تتمسك بتطبيق دستور الطائف من دون استنسابية أو اجتزاء، ومتحررة من الارتهان إلى المحاور الإقليمية والدولية، لذا لا بد من ثورة نهضوية في ثورة 17 تشرين، تؤسس لقيام جبهة معارضة وطنية عابرة للطوائف، مستفيدة بمراجعة نقدية للتجربة السابقة، ويكون الالتزام بتطبيق دستور الطائف هو برنامجها لإعادة بناء دولة القانون والمؤسسات، وأن تتبنى برنامج عمل نضالي يحاكي أوجاع الناس ومعاناتهم المعيشية اليومية، في أولوياته:
١- تأمين الدواء والاستشفاء لشعب أصبح 70% منه تحت خط الفقر.
٢- إعادة الاعتبار للتعليم الرسمي ووضع حد لجشع أصحاب المدارس الخاصة.
٣- وضع تصوّر نضالي لاستعادة الودائع والمدخرات المنهوبة.
٤- إقرار قوانين استقلالية القضاء لتفعيل أجهزة المراقبة والمحاسبة.
٥- وضع اقتراح قانون للانتخابات النيابية مؤسس على المادة 22 من الدستور.
إنّ توحيد صفوف التغييريّين وفق ذلك وعلى أسس سياسية صلبة تحكمها آليات ديمقراطية لاتخاذ القرار بين مكوناتها، كفيل بايصال كتلة نيابية متراصة في الانتخابات النيابية المقبلة تنقل البلاد إلى سكة الحل المرتجى.