«نعم، أنا بلا أخلاق!»
الأخلاق السياسية في لبنان
بالعودة إلى أصل المسألة السياسية وفصلها، لا يمكن التغاضي عن حقيقة أن افتقاد العنصر الأخلاقي يشكل عاملاً أساسياً في حال التخبّط والفوضى التي يشهدها لبنان. فمهما بدا المشهد اللبناني محتدماً تحت عناوين شتى من قبيل تعارض المصالح، والخلاف الطائفي، واقتسام الحصص، والصراع على النفوذ، فإن التوفر على الحدّ الأدنى من الضوابط الأخلاقية في إدارة المشاكل والتعامل مع الأزمات، يتكفّل، على الأقل، بالمساعدة على اجتراح الحلول والحؤول دون الانجراف نحو الهاوية. ذلك أن المسألة الأخلاقية، في حال توفرها، وبمعزل عما تحمله من قيم نظرية، تبقى من الناحية العملية الضمانة في التواصل السليم، والحوار المنتج، والالتقاء على أساس التفاهم، مهما بلغت الخلافات السياسية حداً من التعارض والتضادّ.
ومع أن معضلة العلاقة بين الأخلاق والسياسة ليست حكراً على المشهد اللبناني، فإن الفارق بين لبنان وغيره يكمن في أن الخروج على الأخلاق السياسية، في بلاد الله الواسعة، غالباً ما يكون مموّها ومستتراً وخاضعاً لكثير من العمليات التجميلية، بينما الخروج على المألوف الأخلاقي في السياسة اللبنانية هو سنّة متّبعة، ونية ظاهرة، وشعار يفاخَر به، ومنهج يُتّبع، ووسيلة معلنة، وطبع يتفوّق على التطبّع، ومدرسة ينتسب إليها كل من افتقد الفضيلة في سلوكه والمنطق في تفكيره، ولم يعد لديه من طريقة للحضور وإثبات الذات سوى الزعيق والشتم ليقول للجميع: أنا هنا.
عموماً، تتخذ العلاقة المضطربة بين السياسة والأخلاق أشكالاً عديدة، ولعل أسوأها يتجلّى في الحالة اللبنانية، حيث انقلاب المعايير القيمية وخروج العمل السياسي، في آلياته وغاياته معاً، عن الضوابط الأخلاقية. فلا تعود الرذيلة، والحال هذه، مجرد وسيلة اضطرارية لجلب منفعة أو دفع ضرر، بل تتحوّل الى نمط دائم الاستيطان في السلوك والتفكير، لتصبح في النهاية أسلوب حياة وطريقة عيش وغاية دائمة. اختلال القيم على هذا النحو، غالباً ما ينتج عنه كل آفات الاجتماع السياسي، من قبيل تحول الدولة إلى مزرعة، والأحزاب إلى عصابات، والقوانين إلى تشريعات محنّطة، والمؤسسات الرسمية إلى واجهات للهدر والمحسوبيات..
تراوحت أقوال الفلاسفة حول علاقة الأخلاق بالسياسة بين مثالية مفرطة وواقعية متوحّشة. قبل أكثر من ألفي سنة تحدّث أفلاطون عن ضرورة ربط السياسي بالأخلاق، فاعتبر أن من يُردْ التصدي للشأن العام، يجب أن يتوفر على أربع فضائل: الحكمة بما هي ضمانة لسلامة التفكير، والشجاعة كمؤشر على حسن الطباع، والعفة بوصفها دليلاً على سلامة النفس، والعدالة كشرط أساسي لإدارة شؤون الناس، فخلص إلى القول بأن السياسة ليست سوى الممارسة الاجتماعية للأخلاق. هذا وأتاح عالم الاجتماع المعاصر ماكس فيبر، في نظريته «القرارية»، للسياسي الخروج على الممارسة الأخلاقية شريطة أن يكون ذلك على قاعدة «القضاء على الشرّ بالقوة». في ما لم يغفل ميكيافيلي عن نصح الأمير بأهمية التظاهر بامتلاك قيم أخلاقية رغم كونه صاحب الإرشادات التي تجعل من الأمير سيئاً.
لم يحدث أن شهد لبنان هذا الحدّ من الانفصام السافر بين الأخلاق والسياسة. لقد خرج المشهد السياسي اللبناني، في الكثير من حالاته، عن كل ما هو مألوف ومتصوّر من الخروق الأخلاقية. فبالقياس إلى ما تقدّم، يبقى لبنان حالة خاصة خارج التصنيف، حيث أصبح المواطن اللبناني أسير ممارسات سياسية أطاحت بالفضيلة الأفلاطونية بكل أشكالها، كما تحوّل البلد إلى سردية قهر دائمة على قاعدة «القضاء على الخير بالقوة» بخلاف قرارية فيبر، فيما لا يتردد البعض في تجاوز مكيافيلي برفع شعار: نعم، أنا بلا أخلاق.