IMLebanon

وقائع سياسية تروي قصة انهيار الحلف الثلاثي في البلاد

الجمهورية في منتصف الطريق بين الشغور والحلول

والحكومة مهددة بالإنفراط والرحيل أو بالبقاء والاستمرار

بعد قرابة ٣٠٠ يوم، على استمرار الجمهورية في منتصف الطريق بين الرئاسة والشغور.

هذا الواقع الممض بدا واضحاً، اثر العودة المفاجئة للرئيس سعد الحريري الى بيروت للمشاركة شخصياً في الذكرى العاشرة لاستشهاد والده الرئيس رفيق الحريري، في قلب العاصمة التي أعاد بناءها بعد سبعة عشر عاماً من الدمار والاقتتال.

كان الاحتفال بالذكرى، احتفال فرح ومجد، لا مناسبة للبكاء والنواح، وحرصت مؤسسة رفيق الحريري على أن يكون فرصة لخطاب سياسي واحد، للرئيس الغائب عن لبنان، يحدد فيه المواقع، ويرسم خطة طريق للآمال الكبار، بين لبنان الغارق في الأزمات، والوطن الحالم بالعودة الى رحاب امجاد زرعها والده الذي أحب أن يكون والد اللبنانيين كافة، لا مجرد والد لعائلته ومحيطه وطائفته.

وقد استعانت مؤسسة الحريري بنخبة من حملة الشهادات الجامعية في العالم، ليقفوا ويخبروا الناس قصصهم مع رفيق الحريري.

الرئيس سعد الحريري وضع الحوار بين تيار المستقبل وحزب الله في منتصف الطريق بين الأحلام والسلام، وبين الخصام والعداء.

وهكذا، بدت الجمهورية على موعد مع الربيع اللبناني والخريف السياسي، والاثنان هما الفصلان المميزان بين الاعمار والدمار، بين العقل والتهور، وبين رئاسة الجمهورية والفراغ.

وللمرة الأولى يشارك ٨ و١٤ آذار معا في ذكرى غياب رفيق الحريري واستشهاده، وقبل ٤٨ ساعة من خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ورسالة الرئيس سعد الحريري الى اللبنانيين، حول حوار الأضداد. والحوار على أبواب جلسة جديدة، برعاية رئيس مجلس النواب نبيه بري، في دار الرئاسة الثانية في عين التينة، وبحضور رئيس مجلس الوزراء تمام سلام.

وقد حرص الرئيس نبيه بري على أن يمثل في الاحتفال بالنائب عبد اللطيف الزين كبير نواب المجلس وممثله في عيد مار مارون شفيع الطائفة المارونية وأبرز رؤساء اللجان النيابية، وأكثرهم خبرة وتاريخاً في الحياة النيابية والسياسية، حرص الرئيس العماد ميشال عون على أن يتمثل بالاحتفال بصهره، وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، وعلى أن يتمثل التيار الوطني الحر بوزير التربية الوطنية والفنون الجميلة الياس بوصعب وابن شقيقة الجنرال النائب آلان عون.

الا ان الجمهورية واجهت قبل الاحتفال عقدة أساسية هددت بوقوع حكومة تمام سلام في وهاد الشلل والجمودد، بفعل انسحاب الوزير الطرابلسي العريق رشيد درباس من آخر جلسة لمجلس الوزراء وخروج الوزيرين أليس شبطيني الطرابلسية العريقة والمتزوجة في جبيل، واللواء أشرف ريفي، لأن وزير الشؤون الاجتماعية استرشد بآراء قادة طرابلسيين واحتج على الاهمال السائد في تأليف لجنة تعود الى العاصمة الثانية وغادر الجلسة، وحرصت وزيرة المهجرين ووزير الداخلية على التضامن مع طرابلس وحقوقها، ولا سيما ان الاثنين حريصان على اندمال الجرح الطرابلسي بسرعة، لأن الجهود الأمنية لوزير الداخلية نهاد المشنوق حققت اغراضها، ويجب ألا تخيب هذه الآمال باندثار الجهود الاجتماعية على الرمال، على أبواب الخطة الامنية في البقاع.

ويدو أيضاً أن خطاب سعد الحريري في البيال قد ضمد الجراح الوزارية، وان رئيس الحكومة تمام سلام يواكبه الرئيس نبيه بري، يعمل بروية وهدوء على بلورة حل للمأزق الحكومي، يقوم على اعتماد التصويت الواقعي في جلسة مجلس الوزراء، باعتماد نصاب الثلثين في القضايا المصيرية، واعتماد النصف زائدا واحداً في القضايا العادية، لأنه لا يجوز أن تبقى الموافقة على القرارات بإجماع ٢٤ وزيراً هم أعضاء الحكومة.

ويقول مرجع سياسي إن هذا الاتجاه ينقذ الحكومة من الشلل، وهي على أبواب سنة من عمرها، وتمثل رئيس الجمهورية الواقع دوره في الفراغ، وفي أزمة شغور المنصب الأهم في الدولة بعد أزمة الشعارات الطائفية في طرابلس ولبنان عقب تصريحات نائب، علّق عضويته في تيار المستقبل خلال الاسبوع الفائت.

أزمة معلقة

وكادت الخطة الأمنية في طرابلس أن تصاب بكارثة طائفية، عندما قيل إنها ستمر في العاصمة الثانية من أمام مستديرة عبد الحميد كرامي الزعيم والقائد التاريخي للمدينة، وأحد قادة الاستقلال، ووالد الشهيد رشيد كرامي والمرحوم الرئيس عمر كرامي والمهندس معن كرامي وجدّ الوزير فيصل كرامي.

وللدوحة الكرامية رمزيتها، وللشهيد رشيد زعامته وقوته السياسية التي لا يختلف أحد على تقويم مغزاها. وصودف، يوم الأحد ٨ الجاري، والبلاد على أبواب الذكرى العاشرة لاستشهاد الزعيم رفيق الحريري، أن دار الحديث على الخطة الأمنية، ولا سيما في الشق المتعلق بقرار الحوار الدائر في عين التينة بين تيار المستقبل وحزب الله، حول نزع اللافتات والشعارات السياسية في المدن اللبنانية.

وتطرق الحديث الى موضوع مستديرة عبد الحميد، ونزع عبارة الله وطرابلس عاصمة المسلمين أن أثار الموضوع نائب عكار خالد الضاهر، وأثار أيضاً احتجاجه وامتعاضه، فتلفظ بعبارات كادت أن تثير فتنة طائفية، خصوصاً أنه تحدث عن شعارات لدى الطائفة المسيحية مرتفعة في أجواء جونيه، والاشارة الى تمثال يسوع المسيح، وهو ينتصب فاتحاً ذراعيه ليتلقف الناس. الا ان تعابيره أثارت المسلمين أكثر من المسيحيين، وحملت نائب عكار عن الطائفة الاسلامية السنية على ابداء استعداده للاعتذار، عما صدر عنه، اذا كانت هناك تعابير مسيئة للآخرين، والى المسيحيين بصورة خاصة.

والنائب خالد الضاهر سبق وترشح عن الشمال في انتخابات العام ١٩٩٦، وسقط في البالوتاج الانتخابي وترشح للفوز عن المنطقة الشمالية، وفاز بأصوات المسيحيين أكثر من فوزه بأصوات المسلمين، وإن لوحظ تمايزه في الكورة وزغرتا والبترون، لأن هذه المناطق أعطت أصواتها لمرشحي المعارضة للقائمة المنافسة أحياناً.

وطرابلس، هي مدينة العيش المشترك، وواحة شمالية صافية للقوى المسيحية والاسلامية، ولعب الرئيسان سليمان فرنجيه ورينه معوض، في توطيد هذه الصفات مع الرئيس رشيد كرامي والدكتور عبد المجيد الرافعي والنائب الأرثوذكسي موريس فاضل في توطيد هذه الصورة.

الحروب الواقعية

والحوار الشمالي تعرض لشائبة بارزة خلال تداخل الصراع الفلسطيني في الأحداث اللبنانية، ولا سيما بعد التغلغل اليساري في العاصمة الثانية، ولا سيما في المناطق المتخلفة اقتصادياً، وفي باب التبانة، وجبل محسن خصوصاً.

ويروي الاستاذ جوزف ابو خليل رئيس تحرير جريدة العمل الكتائبية حكايات عن تلك الحقبة تلقي الأضواء، ولو من جانب واحد على المسألة.

وهذه احدى الروايات التي كتبها صاحب مقال من حصاد الايام في جريدة العمل وأوردها في كتابه الأخير: عمري، عمر لبنان.

والرواية، مستقاة مما كان يحدث بين الموارنة والفلسطينيين، يوم كانت المجتمعات متداخلة سكانياً، وأحياناً سياسياً بين جوار صاخب بالتباينات والخصومات وكثافة السلاح في أيدي الجميع.

ويروي ابو خليل احدى حكاياته على الوجه الآتي:

كانت الساعة تقارب الواحدة بعد منتصف ليل العاشر من نيسان ١٩٧٣، الناس في العاصمة نيام والحركة في شوارعها تكاد تكون نائمة هي ايضا، ولا ثمة ما ينبئ بما يشذّ عما هو مألوف. غادرت مكتبي في الجريدة كما في كل ليلة، من محلّة الصيفي، حيث يقع بيت الكتائب، الى فرن الشباك حيث يقع منزلي، مروراً بمنطقة الأشرفية التي لا يزال بعض مقاهيها ومطاعمها مضيئاً ولو من دون روّاد. أزعجني كما في كل ليلة حاجز أمني ينصبه كتائبيون في محلّة التباريز منذ أسابيع، وفي كل مرة يسألونني من أكون، والى أين أنا متّجه ومن أين آتٍ. إذ لست معروفاً كفاية، ولا أنا ممن يجلسون في الصفوف الأمامية، ويظهرون في كل صورة. هذا فضلاً عن انه ليس مفروضاً في كل كتائبي أن يعرف وجهي، وصعب عليّ أن أعرّف عن نفسي في كل ليلة، فعندي أن في الأمر ما ينتقص من كرامتي، وهذا ما صارحت به، مرة، الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، يوم تناول طعام الغداء الى مائدة الشيخ بيار الجميّل، وصدف ان كنت من الحاضرين، تدليلاً على الأذى اللاحق بالقضية الفلسطينية جرّاء حواجز التفتيش التي تنصب أحياناً على الطرق القريبة أو المحيطة بالمخيمات الفلسطينية في تلّ الزعتر أو جسر الباشا أو الدكوانه وما اليها من أماكن. وكالعادة كان الجواب أيضا، ان لا مفرّ من بعض المضايقات في الأحوال الصعبة التي نعيش.

بعد ذلك، عرفت، يقول الكاتب، ان القادة الفلسطينيين الثلاثة محمد يوسف النجار أبو يوسف رئيس اللجنة الفلسطينية السياسية في لبنان، وكمال ناصر الناطق الرسمي باسم المقاومة الفلسطينية، وكمال عدوان أحد المسؤولين في حركة فتح تعرّضوا لاعتداء في ليلة واحدة.

ماذا حدث وماذا يكمن وراء التداعيات؟

ويقول جوزف أبو خليل ان التحقيقات الأولية دلّت على أن قدوم مجموعة من ستة أشخاص قبل أيام، يحملون جوازات سفر بريطانية وبلجيكية وايطالية وألمانية من خلال مطار بيروت الدولي. كان ذلك يوم ٦ نيسان ١٩٧٣، وقد توزّع هؤلاء على بعض فنادق العاصمة وحجزوا لأنفسهم غرفاً حتى ١٣ منه، ثم استأجروا ست سيارات مدنية لتنقلاتهم لدى مكاتب سياحية معروفة. ويبدو أن مهمتهم كانت التحضير للعملية الجهنمية التي هي أقرب الى عمل من أعمال الجاسوسية منها الى العمل العسكري. لقد تعرّفوا على الأماكن التي يعرفون عنها، وبالتأكيد، الكثير قبل قدومهم ويعرفون أيضا أدلاّء لهم وعملاء، بل لعلهم أجروا تجارب مسبقة على الأعمال التنفيذية ضماناً لحسن تنفيذها في أوقاتها المحددة. وعند منتصف ليل ١٠ نيسان تم انزال ٣٠ رجلاً من رجال الكومندوس يحملون زورق اسرائيلي على شاطئ الأوزاعي حيث كانت السيارات الست تنتظرهم قرب منتجع الايدنروك. ومن هناك توزعوا موكبين اثنين يتشكّل كل منهما من ثلاث سيارات، أحدهما في اتجاه شارع فردان، حيث يقيم القياديون الثلاثة: أبو يوسف في الطابق السادس من احدى البنايات، وكمال عدوان وكمال ناصر في البناية المقابلة. دخلوا عليهم في غرف نومهم وفتكوا بهم على الفور، في خلال دقائق. وكانت وجهة الموكب الثاني مقر الجبهة الشعبية الديموقراطية لكنه لم يوفق في النيل من أمينها العام نايف حواتمه الذي صدف ان كان غائباً عن المقر فنجا. أسفر الاشتباك بين المهاجمين والمدافعين عن المقر الى سقوط ١٥ فلسطينيا بين قتيل وجريح، أما الاصابات في الجانب الاسرائيلي فلم تعرف، لكن الأرجح انها لم تكن بذات الحجم، بعض الجرحى فقط بل ربما جريح واحد فقط.

استغرقت العملية المتعددة الفصول ساعتين، لعل أهم وأخطر ما فيها، الاختراق الاسرائيلي للبلد وعاصمته، يقابله ما يشبه الغياب الكامل للسلطة اللبنانية وأجهزتها الأمنية.

ويقول جوزف أبو خليل، انه صادف يومها، ويا للمفارقة، ان كان ضباط المكتب الثاني عهد الرئيس فؤاد شهاب ملاحقين، بل مطاردين من قبل القضاء، لأنهم، كما قيل تجاوزوا مهماتهم وصلاحياتهم وتدخلوا في السياسة والصراع السياسي.

وعندما استقبلنا الرئيس سليمان فرنجيه، الشيخ بيار الجميّل وأعضاء المكتب السياسي الكتائبي صارحنا بالقول: خذوا علماً بأن الضباط الملاحقين لم يتركوا ملفاً إلاّ وأخذوه معهم. ولم يخلّفوا وراءهم إلاّ الفراغ. ونحن من الناحية الأمنية مكشوفون.

ويقول جوزف أبو خليل ان لبنان دفع غالياً جداً ثمن تلك الحملة المبالغ فيها على العهد الشهابي، المبالغ هو أيضا بدوره في الاعتماد على المكتب الثاني ورجاله. على الرغم من علم سيّد العهد بأخطاء هؤلاء وتجاوزاتهم التي لا تعدّ. ولا أنسى ذلك القول الذي أطلقه يوماً العميد ريمون اده، عميد الكتلة الوطنية، رحمه الله، وخلاصته ان أخطاراً ثلاثة تهدّد لبنان هي الشيوعية والصهيونية والشهابية. لقد أحلّ الشهابية، من هذا القبيل، في منزلة الشيوعية والصهيونية، وكان قوله هذا أحد أسباب انفراط عقد الحلف الثلاثي الذي جمع ما بين الأقطاب الموارنة الثلاثة في العام ١٩٦٨، كميل شمعون وريمون اده وبيار الجميّل وأحزابهم الثلاثة ليكون قوة تصدّ للرياح الآتية على لبنان، وكاد يصبح فقط واسطة للثأر من العهد الشهابي وضباط المكتب الثاني. الأمر الذي لم يكن ليوافق عليه الشيخ بيار أو يسكت عنه طويلاً. فالشهابية في نظره ليست كما يراها حليفاه، وليست، طبعاً وبالتأكيد، مثل الصهيونية والشيوعية. وكنت لاحظت عليه منذ مدّة تبرّما من موقف حليفيه على هذا الصعيد، وربما كان يتحيّن الفرص للتحرّر من هذا الارتباط الذي تجاوز أغراضه الحقيقية، فوجد في تصريح العميد اده الفرصة المؤاتية. بادر على الفور الى الرد على تصريح العميد اده بتصريح مضاد، وفي الوقت عينه مخالف للمزاج الشعبي الآخذ في ذلك الحين بنصرة الحلف على النهج الشهابي، في سياساته ومساره ورجاله وفي طليعتهم ضباط المكتب الثاني. هالني ما قاله الشيخ بيار، وكان عندي أشبه بتحدّ لمشاعر الشارع المسيحي المأخوذ بنشوة الانتصار الذي حققه على التيارات المناوئة. فماذا نقول للناس، أو بماذا نبرّر هذا الوقوف في وجه التيار الذي صنعه الحلف الثلاثي نفسه وأصبح جارفاً؟ ولما دخلت عليه في مكتبه في بيت الكتائب طارحاً عليه السؤال أجابني قاذلا: أنت تعرف أننا لسنا مع هذا التحريض المتواصل على العهد الشهابي الذي انطوى، كما على الجيش أو على حكم العسكر كما يقولون وهو في الحقيقة ليس كذلك، متسائلا وهل أنت تصدّق ان الرئيس فؤاد شهاب مارس الحكم العسكري كعسكري.