Site icon IMLebanon

الإخفاقات السياسية ولّدت التطرف

بعد دوي الانفجار في 14 شباط 2005 وإعلان استشهاد الرئيس رفيق الحريري، شعر أكثرية السنّة في لبنان أنهم خسروا تمثيلهم القوي في دولة تقوم على توازن الأقوياء، وأنهم فقدوا المظلّة السياسية التي كانت تحميهم وتؤمّن حضورهم وتشكّل امتدادهم السني والعربي في المنطقة.

غاب رفيق الحريري «فانكسر ظهر السنة في لبنان»، خصوصا أن الحضور القوي للرجل ماليا وسياسيا وعلاقاته العربية والدولية كانت مساعدة في تشكيل زعامة سنية آحادية، أطاحت بكثير من الزعامات السنية وأقفلت عددا من البيوتات السياسية التقليدية، ومن بقي صامدا من الخصوم أو الحلفاء انكفأ أو هادن لعدم قدرته على المواجهة.

قبل استشهاده بأشهر قليلة، استشعر رفيق الحريري خطورة الزعامة الآحادية لطائفة كبرى وأساسية في لبنان، وعبّر أمام كثير من المقرّبين بأن إضعاف الزعامات السنية الأخرى منذ انتخابات العام 1996 كان خطأ فادحا.

لم يكن الحريري مخطئا، بل تجسّدت مخاوفه لحظة استشهاده عندما عمّ الإحباط الطائفة السنية، وسارع الآلاف من أبنائها الى «قصر قريطم» يستجدون زعيما بديلا من صلب رفيق الحريري يكمل مسيرته ويحافظ على مكتسبات وحقوق الطائفة، غير آبهين إن كان هذا الزعيم بهية أو بهاء أو سعد أو فهد الذين جرت مبايعتهم جميعا في تلك الليلة الحزينة وتحت هول صدمة الاغتيال والاستشهاد، قبل أن يستقر رأي العائلة وأصدقائها في لبنان والمنطقة والعالم على أن يحمل سعد أمانة والده.

فجأة، وجد سعد الحريري نفسه زعيما لطائفة تطالب بالانتقام ممن اغتالوا زعيمها، وتصرّ على استمرار حضورها الفاعل في الدولة والحكم، وشراكتها الأساسية على المستوى الوطني، لذلك فوّضت الطائفة السنية الحريري الابن وأعطته ما لم تعطه لوالده الشهيد ولا لأي زعيم سني مرّ في تاريخ لبنان، فحصد الأكثرية النيابية في دورتين انتخابيتين عامي 2005 و2009 وتزعم أكبر كتلة نيابية تضم تنوعا بين كل الطوائف.

ويمكن القول إن القوة الشعبية الكبرى التي تمتع بها سعد الحريري، لم تدفعه الى الانفتاح على سائر المكونات السياسية الأخرى في طائفته التي كان أطفأها والده بوهجه السياسي والمالي، بل وضعها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تسير تحت مظلته وتأتمر بأوامره، أو أن تحارب بضراوة بتهمة الاشتراك في الإغتيال.

ولم يتوان الحريري عن استخدام هذا الاتهام الذي كان جاهزا دائما ضد كل من يخالف توجهاته من القيادات السنية، سواء في الانتخابات النيابية أو المجالس البلدية أو النقابية أو في أي استحقاق سياسي، أو حتى بمجرد انتقاد سياسته.

لم تكن المسيرة السياسية للرئيس سعد الحريري مفروشة بالورود، بل كانت عبارة عن مزيج من التناقضات والاخفاقات أدت بعد عشر سنوات على استشهاد والده الى تراجع شعبيته مع تيار «المستقبل»، والى تنامي حالات التطرف على وقع الأحداث الجارية في سوريا، خصوصا بعدما وجد الشارع السني بأن الاتجاه السياسي للبوصلة الزرقاء ليس متوازنا أو موحدا، وأنه في كل مرة يصار الى استخدامه في وجه الخصوم تحت شعارات طائفية أو مذهبية ومن ثم يدفع ثمن خياراته وحماسته غاليا على يد حكومات المستقبل ووزرائه.

يأخذ كثير من القيادات السنية على سعد الحريري أنه قام بتوريط الطائفة في حربه وسلمه، فعندما «دق على صدره» وأبدى استعداده لمواجهة «حزب الله»، كانت أحداث 7 أيار 2007 التي أدت الى انهيار حلم تشكيل «جيش السنة» تحت إسم «الأفواج» التي جرى حلّها بعد فشلها أولا، وبعد اتفاق الدوحة ثانيا، ودفع عناصرها الثمن في ما تعرضوا له في الاستغناء عن خدماتهم ليتحولوا بعد ذلك الى مسلحين «غب الطلب» يُستَخدمون عندما تدعو الحاجة، في حين سجل على الطائفة السنية بكاملها هزيمة كانت بغنى عنها.

كما يُسجل على الحريري أنه عند كل استحقاق كان يأخذ شارعه والمتعاطفين معه الى أقصى المواجهة، ومن ثم يتركهم من دون أي غطاء سياسي أو أمني ويعود الى قواعده تحت شعار الحفاظ على وحدة وأمن واستقرار البلد، والتمسك بالاعتدال.

كما لم يتأخر الحريري في التقرّب من بعض التيارات الاسلامية المتشددة التي وجد فيها السلاح الأمضى في مواجهة خصومه، لتخييرهم بين التعاطي معه أو التعاطي مع التيارات السلفية. ويؤكد مشاركون في جلسات اتفاق الدوحة أن الحريري قال للمجتمعين: «إما أن تتعاطوا معي أو إذهبوا وتعاطوا مع داعي الاسلام الشهال»، وذلك قبل أن يتخلى عنهم أيضا.

ومع اندلاع الأزمة السورية والاحباط الذي أصاب الحريري باقصائه عن رئاسة الحكومة وتكليف الرئيس نجيب ميقاتي خلفا له، ذهب الحريري الى أبعد ما يمكن في المواجهة والانتقام.

وقد أدى ذلك الى أن يبلغ الاحتقان المذهبي بين السنة والشيعة مداه، خصوصا في ظل غض نظر الحريري وتيار «المستقبل» وقوى «14 آذار» ومن يدور في فلكهما من مؤسسات الدولة عن المجموعات المتشددة التي تسلحت وذهبت الى سوريا، فيما خاضت مجموعات أخرى مواجهات عنيفة في طرابلس ضد جبل محسن وبدأت بفرض نفوذها على المدينة التي اجتاحتها التوترات في محاولة لاسقاط حكومة الرئيس نجيب ميقاتي.

لكن الحريري، وكعادته عندما عاد الى الحكم من بوابة حكومة المصلحة الوطنية برئاسة تمام سلام، انقلب على كل هذا الواقع، فدعم الخطة الأمنية في طرابلس وقطع تيار «المستقبل» كل أشكال التواصل مع المجموعات المسلحة التي كان مصيرها إما السجن أو الهرب.

كل ذلك دفع كثيراً من السنة في لبنان الى مزيد من الاحباط، بعد شعورهم بأنهم يتعرضون لشتى أنواع المظالم، لذلك فقد بدأت حالات التطرف تتنامى يوما بعد يوم كردة فعل على ضعف القيادة السياسية وعدم قدرتها على مواجهة التحديات ولجوئها الدائم الى التنازلات التي لم تعد تروق لكثير من أبناء الطائفة.

بعد عشر سنوات على استشهاد رفيق الحريري، لا تزال الطائفة السنية تدفع ثمن غياب مظلتها السياسية، وهي اليوم تعاني واقعا مأساويا من التشرذم بين «بيت أزرق» بمنازل كثيرة ينشد المواجهة بالتحريض المذهبي تارة والمهادنة تحت شعار الاعتدال تارة أخرى، وغير قادر في الحالتين على تلبية طموحات قواعده الشعبية، وبين «وسطية» تبحث عن ثنائية سياسية لتثبيت حضورها، وبين قيادات إما منكفئة أو مستسلمة أو مهادنة أو تفتش عن دور مستقبلي.. بينما يترك الشارع السني في حالة من الغليان قد تؤدي الى ما لا تحمد عقباه.