Site icon IMLebanon

ضباب سياسي يلفُّ تركيا: حكومة إئتلافية أم إنتخابات مبكِرة؟

الضبابية السياسية ستكون سِمةَ المشهد في تركيا خلال الأيام المقبلة، بعد أن استفاقَ الأتراك على مشهد مغاير لم يعتادوه. حزب «العدالة والتنمية» الحاكم منهمِك في قراءة نتائج الانتخابات بعد عجزه عن الفوز بالغالبية في البرلمان والتي كانت بحوزتِه على مدار 13 عاماً، ما يُجبره للمرّة الأولى على البحث في سيناريوهات ما بَعد الانتخابات، وفي طليعتها تشكيل ائتلاف أو الذهاب نحو انتخابات مبكِرة.

يبدو حزب «العدالة والتنمية» في موقع حرج، إذ تبدو الخيارات التي يملكها محدودة، فإمّا يتّجه إلى تشكيل حكومة إئتلافية، والأمر دونه معوقات عدة، أو يسير في خيار انتخابات مبكرة.

بموجب الدستور سيَطلب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان- الذي تبدّد حلمه بإمكان تغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي- من رئيس الوزراء الحالي أحمد داود أوغلو ورئيس حزب «العدالة والتنمية» تشكيلَ حكومة جديدة، غَداة تصدّر حزبه بحصوله على 40,8 في المئة من الأصوات أي 258 مقعداً من أصل مقاعد البرلمان الـ550.

يمكن لداود أوغلو أن يشكّل فريقاً حكومياً يُعتبَر أقلية، لكنّ أردوغان استبعَد هذه الفرضية، في معرض تعليقه على «أنّ النتائج الحاليّة لا تعطي

الفرصة لأيّ حزب لتشكيل حكومة بمفردِه».

«سيناريو تشكيل حكومة إئتلافية» رجّحَه بدوره نائب رئيس الوزراء نعمان كورتولموش، على رغم أنّ أحزاب المعارضة الثلاثة رفضَت قبل الإنتخابات فكرةَ تشكيل ائتلاف مع حزب «العدالة والتنمية» تحت وصاية الرئيس الذي وصفَته طيلة الحملة الإنتخابية بـ«المستبد».

على المقلب الآخر، هناك إمكانية لتشكيل إئتلاف من ثلاثة أحزاب معارضة، بعد أن حصل حزب الشعب الجمهوري (اشتراكي ديموقراطي) على 25 في المئة من الأصوات و132 مقعداً نيابياً، وحزب العمل القومي (يميني) على 16,3 في المئة و80 مقعداً، وحزب الشعب الديمقراطي (مناصر للاكراد-يساري) على 13,1 في المئة و80 مقعداً أي ما يشكّل غالبية من 292 نائباً.

المتحدّث باسم الحزب الذي احتلّ المرتبة الثانية بعد الحزب الحاكم خلوق كوتش لم يشَكّك في قدرة «حزب الشعب الجمهوري على تشكيل حكومة».

إلّا أنّ احتمال التعايش بين القوميّين والأكراد يبدو ضئيلاً جداً في نظر المحلّلين.

فحزب «الشعب الديمقراطي» القريب من حزب «العمّال الكردستاني» يدعم عملية السلام بين الحكومة وزعيمه عبدالله أوجلان، في وقتٍ يعتبر حزب «العمل القومي» أوجلان «إرهابياً» ويدافع بشراسة عن وحدة تركيا.

بَيدَ أنّ هذا السيناريو قد يَصعب تطبيقه غداة تأكيد داود أوغلو بوضوح «أنّه لن يتخلّى عن السلطة… بعد أن أظهرَت هذه الانتخابات مرّة أخرى أنّ حزب العدالة والتنمية يشكّل العمود الفقري للبلاد».

سيناريوهات المحَلّلين

الفرَضية المرجّحة من قبَل قادة حزب «العدالة والتنمية» والصحف التركية، أن يشكّل الحزب الحاكم حكومة ائتلافية. لكن في حال فشل محاولاته لتشكيل حكومة في غضون الأيام الـ45 المقبلة، يمكن لرئيس الدولة أن يحلّ «الجمعية الوطنية الكبرى» ويَدعو إلى انتخابات مبكرة بموجب الدستور.

وقد عنوَنت صحيفة يني شفق «انتخابات مبكِرة في الأفق»، ليعود نائب رئيس الوزراء كورتولموش ليشدّد على»أنّ هذا الخيار هو الأبعد».

إيسن أرمز

المستشارة لحزب «العدالة والتنمية» في البرلمان التركي إيسن أرمز تشير في تصريح لـ»الجمهورية» إلى أنّ قادة الحزب «يناقشون كلّ الإحتمالات»، من دون أن ترجّح خياراً على آخر، مُكتفيةً بالقول: «خلال الأيام المقبلة سوف يتّضح المشهد».

مصطفى أوغلو

في المقابل، يرى رئيسُ قِسم العلوم السياسية والعلاقات الدَولية في جامعة MEF في اسطنبول الدكتور مصطفى كبار أوغلو أنّه باستثناء حزب «العدالة والتنمية»، الذي ادّعى الحقّ فضلاً عن المسؤولية لحكم البلاد على مدى السنوات الأربع المقبلة، على رغم عدم حصوله على عدد كاف من المقاعد في البرلمان بتشكيل حكومة حزب واحد أخرى، أغلقَت جميع الأطراف الثلاثة في الجبهة المعارضة، وهما حزب الشعب الجمهوري CHP، حزب العمل القومي MHP وحزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، أبوابَها أمام أيّ إمكانية لتشكيل حكومة ائتلافية مع حزب العدالة والتنمية. فتوزيعُ المقاعد يشير بوضوح إلى أنّ الأحزاب الأربعة ليس لديها غالبية لتشكيل حكومة الحزب الواحد.

هذا يعني في نظر كبار أوغلو أنّ «هناك احتمالاً كبيراً لتشكيل حكومة ائتلافية، إنْ لم يكن حكومة أقلّية أو موَقّتة أو تصرّف أعمالاً لأسباب مختلفة. ولكن اختلاف حزب العمل القومي الواضح مع الشعوب الديمقراطي لأسباب أيديولوجية بَحتة يَحدّ من الخيارات المتاحة».

ويرجّح كبار أوغلو أنّ السيناريو الممكن إمّا حكومة ائتلافية بين حزب العدالة والتنمية وحزب الشعوب الديمقراطي، أو حكومة أقلية لحزب العدالة والتنمية يدعمها HDP من الخارج، على قاعدة أنّ الجانبين اتّفَقا على عدد من القضايا الأساسية، أوّلاً وقبل كلّ شيء استمرار «عملية السلام»، ووضع أيّ مقترَح لتغيير النظام إلى رئاسي على الرف وإجراء تحَوّل كبير في سياسة تركيا الخارجية تجاه الشرق الأوسط ، التي اعتبرَتها المعارضة مبنيةً على أسُس طائفية، وهذا لم تعترف به من قَبل حكومة حزب العدالة والتنمية.

وعلى رغم التصريحات الملزِمة في وقت مبكِر من قادة جميع الأطراف الثلاثة في المعارضة، في الوقت المناسب، HDP قد يفكّر في تغيير موقفه الحالي، عدة أيام يجب أن تنقضي قبل الدخول في أيّ تقديرات.

سينان بيكانت

وبخلاف كبار أوغلو، يَبدو المستشار السياسي السابق في البرلمان التركي سينان بيكانت واثقاً من اتجاه تركيا نحو انتخابات مبكرة. ويقول لـ»الجمهورية»: «لا أتوقّع ان نكون أمام حكومة ائتلافية، تركيا ستكون بالتأكيد على موعد مع انتخابات مبكرة خلال 45 يوماً، هذه مخاطرة كبيرة للحزب الحاكم ، لكن لا يبدو أنّ لديه خياراً آخر».

في الوقت عينه، يرى بيكانت أنّ الإنتخابات حَملت معها مفاجأتين. الأولى تمثّلَت بتحقيق حزب الشعوب الديمقراطي نتيجة استثنائية بحصوله على أكثر من 13 في المئة من الأصوات، علماً أنّ الكلّ كان مقتنعاً أنّ الحزب الكردي سيَحصل على أكثر من 10 في المئة.

أمّا المفاجأة الثانية فكانت خسارة حزب «العدالة والتنمية» نحو 3 ملايين صوت، وفق نتائج التصويت، التي من دون شكّ سيكون لها وقعٌ كبير على الداخل التركي وعلى سياسة أنقرة الخارجية في الشرق الأوسط، ولا سيّما في الحرب الأهلية الدائرة في كلّ مِن سوريا والعراق، في نظر السياسي الشاب المعارض.

وجود إئتلاف حكومي من شأنه أن يدفع إلى إعادة النظر بالسياسة الخارجية، وعوضاً عن دعم التنظيمات السنّية في العراق وسوريا، سيكون في إمكان تركيا التوسّط بين الأطراف المتصارعة، فضلاً عن تطبيع العلاقات مع مصر وإسرائيل هو أمرمتوقع في نظر بيكانت.

ووفقاً لطبيعة العلاقات بين أطراف الإئتلاف، ستتطور العلاقة مع الغرب. على سبيل المثال تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الشعب الجمهوري، سيُعزز موقع تركيا في علاقاتها مع الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

ومن شأن التحالف مع حزب الحركة القومية تطوير تحالف قوي مع الولايات المتحدة في مقابل علاقة أكثر تحفظاً مع الإتحاد الأوروبي. ولكن على أي حال، «في وجود حكومة إئتلافية، فإن موقف تركيا من نظام الأسد والمحور الشيعي من شأنه أن يلين ويكون أكثر عقلانية، وهو أمر جيّد للسلام الإقليمي» على حد تعبير بيكانت.

لماذا تراجع «العدالة والتنمية»؟

توازياً، يَعتبر رئيسُ قسم العلوم السياسية والعلاقات الدَولية في جامعة MEF في اسطنبول أنّ حزب «العدالة والتنمية»منذ ظهوره على مسرح السياسة التركية عام 2002، تحت قيادة أردوغان، احتلّ المرتبة الأولى في جميع الانتخابات سواءٌ العامّة أو المحلية. وهذه القاعدة سرَت أيضاً في انتخابات أمس الأوّل التشريعية، ولكن مع تحذير تمثّلَ في انخفاض كبير في نسبة الأصوات مقارنةً بالانتخابات السابقة.

وفي نظر مصطفى كبار أوغلو تقف أسباب عدة وراء هذه النتيجة، «تمتدّ من التعَب الذي لحقَ بالحزب من خلال وجوده في السلطة كحكومة حزب واحد على مدى الـ 13 سنة الماضية، إلى تباطؤ النموّ الإقتصادي في البلاد خلال العامين الماضيين بعد فترة طويلة من النجاح الملحوظ من دون إغفال تراجع أصوات المواطنين الأكراد في تركيا، الذين كانوا متعاطفين مع النظرة المحافظة لحزب العدالة والتنمية»، إلى جانب التغيير الذي لحقَ بالجهاز التنفيذي للحزب، مع مغادرة أردوغان منصبَه كرئيس وزراء ليصبح رئيساً للجمهورية، يبدو أنّه قد كان لها الأثر الأقوى على الناخبين الذين اعتادوا التصويتَ لصالح حزب العدالة والتنمية.

ويقول كبار أوغلو: «صحيح أنّ أردوغان قاد حملةً انتخابية موازية تقريباً مع خطبِه العامة كل يوم، لكنّ غيابه عن رأس الحزب لم يقنِع أتباعه أنّ العمل سيبقى كالمعتاد».

ولا ينكر كبار أوغلو أنّ الفوز الذي حقّقه الأكراد سيؤثّر على المشهد السياسي في تركيا. ويقول: «إنّ زعيم حزب الشعوب الديموقراطي صلاح الدين ديمرتاش اعترفَ بنفسه أنّه ائتلاف للعديد من مشارب مختلفة في السياسة التركية، التي اتّحدَت حول مجموعة من المبادئ الأساسية، مثل احترام جميع الإختلافات العرقية والدينية ضمن النسيج التركي، واحترام حقوق الطبقة العاملة.

وبالتالي، كثير من الناس لم يفكّروا في التصويت لـHDP في الماضي لأسباب مختلفة لعلاقاته وثيقة مع حزب العمّال الكردستاني وزعيمه عبدالله اوجلان، لكنّهم اليوم قدّروا خطاب ديمرتاش الصادق بالإضافة إلى بساطته وأسلوبه الصريح في إيصال رسالته إلى الجميع».

فكانت النتيجة حصول حزب الشعوب الديمقراطي على أصوات مضاعفة مقارنةً مع السابق. من الواضح «أنّ مثل هذه النتيجة ستتمّ دراستها ليس فقط من قبَل الأكاديميين ولكن أيضاً من كوادر صنع القرار في الأحزاب السياسية الأخرى بهدف تقليد هذا النموذج الناجح في الانتخابات المقبلة»، يؤكّد رئيسُ قسم العلوم السياسية والعلاقات الدَولية في جامعة MEF في اسطنبول.

ولا يخفي كبار أوغلو أنّ السياسيين الأكراد استخدموا تصريحات أردوغان لتعزيز الدوافع الكردية في بياناتهم، وكذلك دور أردوغان في قرارات حكومة داود أوغلو في ما خصّ التطورات التي حدثَت في كوباني في تشرين الأول عام 2014.

وربّما كان هذا له «تأثير على القرار النهائي للمواطنين الأكراد الذين كانوا يصوّتون لمصلحة حزب العدالة والتنمية في الماضي، وغيّروا رأيَهم في الانتخابات الحالية ووجدوا في حزب الشعوب الديمقراطي الممثّل الحقيقي للأكراد الذين يعيشون في تركيا»، يختم الأستاذ الجامعي.