يعيش لبنان تداعيات الصراع المحتدم في المنطقة، لا سيما الصراع الاميركي- الايراني، الذي ازداد سخونة بعد قصف منشآت نفط شركة «ارامكو» السعودية واتهام اميركا والمملكة العربية السعودية لإيران بشكل مباشر بتدبير الهجوم وتنفيذه، لكن لبنان واقع اصلا وقبل هذا الهجوم تحت تأثير العقوبات الاميركية المفروضة على «حزب الله» وبعض المشكوك بتعاونهم معه، والتي طالت بعض المصارف والشخصيات الشيعية المتمولة في الداخل وفي الاغتراب، حتى وصل الامر الى حد الخطف العلني لبعض الاشخاص في الاغتراب، بحجة التحقيق معهم حول مدى ارتباطهم او تعاونهم مع الحزب.
لكن الخطير في الامر مع اعلنه المغترب المحرر من الخطف في اثيوبيا حسن جابر، ان ضباطا من مخابرات العدو الاسرائيلي (الموساد) هم من تولوا التحقيق معه، وهي سابقة اذا تكررت مع غيره، قد تؤدي الى توتر العلاقات بين لبنان وبين الدول التي تطلب اميركا منها توقيف اي لبناني «مشتبه به»، حتى لو خلال عبوره ترانزيت في مطاراتها. والاخطر، ان لبنان الرسمي لم يتحرك حتى الان تجاه اثيوبيا لاستيضاحها عن احتجاز جابر والسماح لمخابرات العدو باستجوابه، وهو ما يرى فيه بعض المؤيدين للحزب نوعا من التعدي غير المباشر على لبنان كفعل خطف تماما كما يفعل العدو الاسرائيلي بخطف المواطنين من قرب الحدود اللبنانية.
وبغض النظر عن التفاصيل المتعلقة بالصراع الدائر في المنطقة، والاتجاه الذي يمكن ان تسلكه التطورات الميدانية في الخليج، وحيث يستعد الحرس الثوري الايراني لعرض قوة جديد هناك في 22 من الشهر الحالي، ردا على التهديدات الاميركية بتوجيه ضربة لإيران، فإن هذا الصراع قد انعكس انقساما داخليا حادا في لبنان، يتضح في مواقف الاطراف السياسية المؤيدة والمعارضة لـ«حزب لله»، وبات الانقسام واضحا بين خيارات استراتيجية كبرى وليس حول ملفات داخلية إجرائية، وقد دفع هذا الخلاف الاستراتيجي القوى السياسية اللبنانية الى تبني خيارات بل احيانا قرارات لمحاور اقليمية ودولية.
وقد بات واضحا ايضا ان كل طرف لبناني تبنّى خيارات إقليمية معينة، ويعبّر عنها أغلب زعماء القوى السياسية بشكل واضح، هذا مع هذا المحور وذاك مع المحور الاخر، واصبح من الصعب الاختباء وراء الاصبع والتغني بسياسة «النأي بالنفس»، التي فقدت مضمونها الفعلي، وإن كانت الحكومة تحاول ان تضع نفسها خارج صراع المحاور ولازالت تتبنى رسميا في المنتديات الدولية بعضا من هذه السياسة، إلاّ في ما خصّ القضايا العربية وفي القمم والاجتماعات العربية الخاصة بهذا الموضوع، حيث تضطر الى تبنّي الخيارات العربية، سواء عن قناعة او عن التزام بشعار اتخاذ القرارات بالاجماع العربي.
مناورات انتخابية وتهدئة
لكن جهات ومصادر سياسية حزبية ووزارية ونيابية مطلعة على طريقة تعاطي «حزب الله» مع هذا الصراع وانعكاساته، ترى بل وتؤكد ان كل هذا الضجيج القائم في الاقليم لا يؤشر الى احتمال اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة وكبيرة، ولو كانت ستحصل لكانت حصلت من مدة، وتحت اسباب وحجج وذرائع كثيرة، وترى المصادر ان الامور تتجه الى التفاوض بين اميركا وايران اكثر مما تتجه نحو الاشتباك، ذلك ان مصالح الطرفين ستتضرر وتتأثر بشكل كبير في الخليج وعبر العالم، وقد عبّر الرئيس الاميركي دونالد ترامب امس عن هذا التوجه بقوله «ان الحرب على إيران هي الخيار الاخير وهناك خيارات اخرى قبله»، في اشارة منه الى الاتجاه الى فرض مزيد من العقوبات على طهران خلال 48 ساعة كما اعلن.
ويذهب البعض الى اعتبار ان تهديدات ترامب لإيران هي من ضمن الحملة الانتخابية الرئاسية، تماما كما كانت تهديدات وتحريضات رئيس وزراء العدو المنهزم في انتخابات الكنيست بنيامين نتانياهو، وحيث يُتوقع ان تتراجع هذه اللهجة الاميركية والاسرائيلية مع سقوط نتانياهو، وهو ما اعتبره نواب فلسطينيون في الكنيست قبل يومين هزيمة لمشروع «صفقة القرن» مع هزيمة نتانياهو.
على هذا الاساس يتصرف «حزب الله» بعقل بارد تجاه القضايا الداخلية، ولا تستفزه كثيرا المواقف التي يطلقها الخصوم، والذين يعتبرهم من مؤيدي المحور الاخر، وتقول مصادره الوزارية ان همّ الحزب في الداخل اللبناني يتمحور حول امرين اساسيين: تكريس معادلة الردع ضد العدو الاسرائيلي، وتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي عبر المساهمة بزخم في ورشة النهوض الاقتصادي والاصلاح المالي والاداري ومكافحة الفساد، وهو يتعاطى مع الوضع الداخلي بكل تفاصيله من منطلق تكريس حد ادنى من الازمات وحد اقصى من التهدئة ووحدة الحكومة، حتى تتمكن من الانصراف بجدية الى معالجة الازمات القائمة ماليا واقتصاديا وإجرائياً.
اما الموقف من الوضع الاقليمي، فمن الواضح ان لا «حزب الله» ولا رئيس الحكومة سعد الحريري ولا الرئيس نبيه بري ولا الحزب التقدمي الاشتراكي، ينوون الانخراط في مواجهاته السياسية، برغم المواقف والاتجاهات المعروفة لكل منهم، وذلك من ضمن الحرص على اكبر قدر من التماسك الحكومي في هذه المرحلة التي ينتظر فيها لبنان الدعم الدولي، عبر تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر»، وبعدما قام ببعض الخطوات ولو المتواضعة لإرضاء وإقناع الدول المعنية والمانحة بإجراءاته التقشفية والاصلاحية، ذلك ان انتقال الصراع السياسي الداخلي – الاقليمي الى داخل مجلس الوزراء سيتسبب بتفجير الحكومة من داخلها، وبالتالي القضاء على آخر آمال النهوض الاقتصادي.