IMLebanon

الإرث السياسي ومشهد التوحش

لا أحد في العالم يملك تقدير المدى الزمني لهذه الفوضى العربية. كل المعطيات تشير إلى اتساعها في العالم العربي والإسلامي وقد تطاول دولاً أخرى. هناك تحالف غربي يصرّ على الاحتفاظ بموقع القيادة والتحكّم بمعظم عناصر القوة برغم مناهضة الآخرين له من مواقع وبعناصر مختلفة. وهناك عالم إسلامي يعاني مشكلات وأزمات متراكمة لا إمكانات لديه لمعالجتها فتنفجر عنفاً وإرهاباً وفاشية في بعض تجلياتها من دون أن يكون هذا الوجه الوحيد لذلك.

المجتمعات الإسلامية كما في القرن التاسع عشر تواجه تحديات داخلية عضوية كما تواجه تحديات خارجية أكثر شراسة وعمقاً مع العالم الخارجي حيث لم يعد هناك إلا إمبراطورية واحدة ذات قدرة على المبادرة.

في القرن التاسع عشر كانت هناك «إمبراطورية إسلامية» في طور التراجع ومليئة بالتناقضات، لكنها ظلت حتى اللحظة الأخيرة قبل انهيارها تعطي للإسلام السياسي «الأمل» أو «الوهم» بإمكان إحياء «الرابطة الإسلامية» ولو تفلّت منها هنا أو هناك بعض المواقع. ليس هذا شأن الإسلام السياسي الآن ولا العالم العربي الذي نفض يده على المستوى الرسمي والشرعي من فكرة «الجامعة العربية» وأسقط ويُسقط تباعاً من عناوين دوله ومن دساتيره صفة العروبة.

ولم تعد شرعية الاتجاه الوحدوي لدى أي دولة أو نظام عنصراً مهماً أو وازناً في «شرعيته الشعبية» ولم تعد تصلح أساساً للاستخدام الاستهلاكي السياسي، فالجميع في العالم العربي يتطلعون إلى التغني بمفهوم «السيادة» وهي نفسها صارت خرقة لا تغطي كل هذا الانبطاح أمام السيادة الأقوى والأعلى لجبهة التحالف الغربي الكبير المدعوة إلى إنقاذ العرب والمسلمين من نتائج سياساتهم وأزماتهم مع شعوبهم، أو بين مجموعات من شعوب إسلامية سواء جاءت من الجوار القريب أو من بلاد الشتات والهجرة ولم تتصالح هي كذلك مع مجتمعات الغرب وقيمه.

والأسئلة الآن لم تعد برسم العرب وحدهم ولا خصوصاً في العراق وبلاد الشام حيث كانت العلاقة غير سوية بين الأفكار القومية العلمانية وأحزابها وثقافة الشعوب «الإسلامية»، بل كذلك مع دول إسلامية حسمت خياراتها «الإسلاموية» في مجتمعات نامية حقيقة كإيران وتركيا. هاتان الدولتان القويتان وفق معايير القوة والتقدم في العالم المعاصر قد أنشأتا بنية سياسية هي كذلك، ولو من نموذجين مختلفين، مؤسسات تسمح بتداول السلطة ولو وفق قيود أو معوقات، ليست بسيطة. فأزمة إنتاج ديموقراطية حديثة سمة من سمات الكثير من المجتمعات الإسلامية أكثرها تعقيداً ولكنه ليس المصدر الوحيد لكل هذه المشكلات «الانتقالية» في بلدان لا تتوافر لها ثقافة سياسية ديموقراطية، وأكثر من ذلك لا تتوافر لها بيئة مجاورة وبيئة عالمية تساعدها على ذلك. هناك أسئلة جدية على كل مظاهر التحوّل الديموقراطي من كل دول أوروبا الشرقية إلى بلدان العالم الثالث. بل هناك أسئلة عن ديموقراطية الغرب التي شاخت أمام صعود اليمين في أوروبا وضمور اليسار وشحوب صورته.

لسنا إذاً أمام عالم عربي مرشّح للاستقرار في المدى المنظور أو مهيّأ لجدول أعمال مختلف عن ذاك الذي نشاهده يتوالد من داخل ومن خارج وعبر نزاعات الحدود والأديان والطوائف والمذاهب والقبائل والإمعان في العنف والإمعان في الأفكار الظلامية. فلا معنى اليوم لانتظار شيء مثل «التحالف الغربي لمكافحة الإرهاب» ولا الرهان طبعاً على معارك للحسم في أي موقع أو مكان، ولا محل لتوقع «الصحوة» مهما كانت مسمياتها من إسلام سياسي أوغل في استحضار كل ما هو من أسباب الفرقة والنزاع وكبح تيارات التقدم ومناهضتها. هناك أفق وحيد تأسيسي بالمعنى السياسي واستكمالي بالمعنى الفكري والثقافي، وعلى مستوى «الوعي» الذي أنتجته النخب العربية ليس فقط «عصر النهضة» بل بعد «النكبة» و«الهزيمة» وما يزال يعاني بسبب الاستبداد فجوة في اتصاله بالجمهور. لا. ليست المشكلة في المثقفين العرب برغم كثرة مشكلاتهم، بل في أنهم عاشوا عصر استبداد فاق «العصر الحميدي» فهم إما في السجون وإما في المنافي وإما في القبور. إذا كان هناك مَن يريد أن يغطي على هذه الوقائع والمعطيات ليبرر أو ليعطي أسباباً تخفيفية للحكام العرب والطواقم الحاكمة باسم معارك «قومية أو أممية» فهذه مسألة مفصلية يتوقف على حلها الكثير من احتمالات «المستقبل».