إن الكيان اللبناني هو كلمة فلسفية، أكثر منها كلمة سياسية. فكلمة كيان تعني ان هناك متحداً خاصاً للبنان تاريخي وواقعي. وهذا لم يكن موجوداً في لبنان في يوم من الأيام. لقد مرَّ لبنان على المستوى التاريخي بثلاث تشكّلات كبيرة ومعاصرة. جبل لبنان، ثم دولة لبنان الكبير، ثم لبنان بشكله الحالي وعندما نقول تشكّل يعني إضافة وإنقاص عناصر بشرية. فهو عبّر أولاُ عن ذاته بشكل الدولتين الدرزية والمارونية عندما قام في المرحلة الأولى، ثم ثانياٍ كملحق للدولة الفرنسية عند قيام الانتداب، وأخيراً عندما أصبح عضوا في جامعة الدول العربية.
اليوم تحلُّ الذكرى الواحدة والثمانون لإستقلال لبنان. إن معاهدة سايكس بيكو مسؤولة عن تجزئة الأمة، ولقد كان لبنان بفعل هذه المعاهدة أحد الكيانات التي سُمّي وطناً فتم الانفصال كما في غيره من الكيانات بين مفهوم الأمة ومفهوم الوطن فضاعت الهوية الحقيقية للشعب. فلبنان الكيان هو في الوقت نفسه لبنان الكيانات، لذلك كان سهلاً على المؤامرات تحقيق مأربها في لبنان، وذلك من خلال التلاعب على وتر الطائفية، والتي أدّت إلى تدمير صيغة الحياة الواحدة بين اللبنانيين فإسرائيل كدولة لا يمكن لها أن تبقى إلّا إذا عمّمت نموذجها، لذلك هي وضعت كل قوتها بدعم من الولايات المتحدة لإنشاء دويلات طائفية في المنطقة المجاورة لها.
لقد حاول البعض منذ عام 1943 صياغة واقع لبنان ومستقبله حول مفهومين متحرّكين هما الكيان والنظام، وذلك حسب اتجاه يدفع بالفئة المتسلّطة لإخضاع النظام أو لتطويعه بشكل يخدم مصالحها هي بالذات. فيصبح هذا النظام تعبيراً متزايداً عن الجموح والإجحاف إلى درجة تصبح فيه الهوة بين المستغل والمُستغل انشقاقا لا يلتحم، وهذه المسألة تعدّت حدود النظام لتطال جوهر الكيان بحيث أصبح كل اهتزاز لمصالح المتحكمين هو اهتزاز للمشهد السياسي برمّته، ما أنتج وضعية اجتماعية تسير على رمال متحركة جعلت لبنان يعيش في اضطراب دائم. وكان من نتيجة ذلك إن البعض أصبح يعتبر أن كل مناقشة للنظام هي مناقشة للكيان بغية إزالته، وفي ظل هذا المشهد برزت أصوات راحت تطرح الفيدرالية والكونفيدرالية أي بمعنى آخر التقسيم. وكلها مشاريع تطال بنية الكيان ونظامه السياسي، والتي هي بنية قابلة للنزاع.
لا يختلف اثنان ان تاريخ لبنان السياسي منذ إنشاء دولة لبنان الكبير حتى اليوم هو تاريخ نزاعات وتوزيع للحصص، بحيث باتت كل طائفة تشعر بأنها دولة بحدّ ذاتها لها مدارسها ومستشفياتها وإعلامها، ولها في الحروب جيشها أيضاً، ما حال ويحول باستمرار دون إمكانية انتقال الفرد من عضوية القبيلة والطائفة الى عضوية الدولة. حتى المؤسسات التي نشأت اجتماعية كانت أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية فقد أقيمت على هذه القاعدة، وهي أمّنت باستمرار للقوى المعادية سهولة فائقة في التلاعب بمصير اللبنانيين، وما الأزمات المتتالية التي عرفها لبنان في القرنين الأخيرين إلّا برهان على ذلك. إذ اتخذت من طابع التناقض الداخلي طابع التحارب الأهلي. هذه الأسباب وغيرها شكّلت مقدمات لاستغلال التناقضات الاجتماعية من قبل الأعداء فكانت غطاء له في التدخّل وإثارة العصبيات والنعرات الطائفية وتأليب اللبنانيين على بعضهم البعض. لقد شكّلت هذه الوضعية خدمة كبرى للعدو الصهيوني جعلته يستغلّ الفرص ويعمل على تأجيج الصراع ليسرق الأرض ويستغلّ خيراتها.
وإمعانا في تنفيذ مخطط التقسيم رفع فريق من اللبنانيين شعار إقامة الدويلة المستقلة متستّرا بألف ستار من مقولة المجتمع الآمن الى مقولة الفيدرالية وغيرها من المقولات التي تضجّ بالعنصرية والتفوّق الرخيص.
واليوم : فان لبنان ما زال يدور في فلك التجاذبات الإقليمية والدولية والتي تتشابك تشابكاً معقّداً للغاية. فالولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان إلى عدم استعادة لبنان عافيته الكاملة. والصورة اليوم ترسو على واقع متأزّم في العلاقات اللبنانية – اللبنانية، وفي العلاقات بين بعض الأطراف اللبنانيين بسوريا، وفي تصاعد حدّة الأزمة الاقتصادية والتي تتحمّل مسؤولياتها الفئة الحاكمة والتي انتقلت من وراء المتاريس الى وراء طاولة مجلس الوزراء. وأخيرا وليس آخراً يبقى السؤال الكبير: هل استطعنا تحويل استقلالنا إلى مكاسب اجتماعية واقتصادية؟ هل استطعنا تحصين الوطن بنظام صالح يقوم على أساس إلغاء الطائفية السياسية ونبذ الفساد واحترام القانون؟ وهل سننتظر كثيرا بعد؟
* كاتب وصحافي