IMLebanon

الحكام اللبنانيون بمناكفاتهم يتلهّون.. وبرفض المبادرات يتباهون وبمصير الوطن يعبثون

 

لبنان ليس بخير، وشعبه ليس على ما يرام، الوطن على شفير الانهيار واللبنانيون على وشك الاحتضار، وأمراء الطَّوائف والمذاهب على المحاصصة مختلفون؛ يتوهمون أنهم بمواقفهم السَّلبيَّة يحققون الانتصارات بتسجيل النُّقاط في إحباط المُبادرات السِّياسيَّة ورفض مقترحات الوسطاء الدَّوليين، ويغيب عن بالهم أنهم بأدائهم الميليشياوي غير المسؤول قد تسببوا في تفكُّك الدَّولة وتعطيل مؤسَّساتها الدُّستوريَّة، وشلِّ إداراتها ومؤسَّساتها الرسميَّة، وقضوا على قطاعها العام. ما كان لكل ذلك أن يحصل لو كان في لبنان زُعماء مسؤولين حقيقيين يتحلّون بالحد الأدنى من المسؤوليَّة والمناقبيَّات الوطنيَّة يولون اهتماماً للوقت، ويحتسبون لما قد يحمله المستقبل من تحدّيات ومفاجآت، ولا يفوّتون الفرص المتاحة.

ليست المرَّة الأولى التي أدّعي فيها أن مصيبة لبنان الكبرى تتمثَّلُ في افتقاده إلى قاماتٍ سياسيَّة وطنيَّة فوق الشُّبهات، مُتعاليةً عن الأنانيَّات ومترفّعة عن الإصطفافات الفئويَّة لأني مقتنعٌ أن الألقاب التي يتسترون بها لا تصنع قادة ولا زعامات. إن ما ينقص أولي الأمر في لبنان «أصحاب الربط والحل» لا يقتصر على معايير الزَّعامة، إنما يضاف إلى ذلك افتقادهم للكثير من المَعايير الوطنيَّة والقيم الإنسانيَّة والأخلاقيَّة، وإلَّا لما تاهوا في دهاليز الابتزاز السياسي، ولا تخندقوا خلف متاريس الطائفيَّة أو المذهبيَّة أو المناطقيَّة… الخ، ولا غلَّبوا الاعتبارات الشَّخصيَّة على المصلحة الوطنيَّة. ومن جملة ما يفتقدون إليه من مزايا: التَّجرد والرِّيادة والكفاءة العلميَّة والعمليَّة، وما يؤكِّد ذلك تخبَّطُ لبنان، منذ عقدين من الزَّمنِ، في تبعات سياساتهم الباليَة، وتكبَّد اللبنانيين أعباء وأثمان باهظة ولن تقتصر عليهم إنما تطال مُستقبل أبنائهم وأحفادهم.

 

أسوأ ما في حكَّام لبنان الحاليين أنهم لا يتَّعظون، وغير مستعدين لاستقاء العِبَر حتى من تجاربهم الشَّخصيَّة الخاطئة، دأبهم الرَّفض لمُجرَّد الرَّفض، والمُشاكسة عملاً بمبدأ خالف تُعرف، وكأن عقولهم مُبرمجةٌ على تبنّي مقاربات مواربة متناقضة مع المسارات المنطقيَّة، ومتعارضة مع روحيَّة النُّصوص القانونيَّة، ومن هذا المنطلق تُفهم كثرة خروقاتهم للدستور وانتهاكاتهم للقوانين، وتحدّيهم لإرادة الشَّعب، ورفضهم للمُبادرات قبل بلورتها، وللمُقترحات قبل الإعلان عنها. ولكنهم مدعاة للإعجاب والتَّعجب في قُدرتهم على التَّنصُّل من مسؤوليَّاتهم، وتبرير إخفاقاتهم، كما في التَّقلب بخطابهم ومواقفهم السياسيَّةٍ رأساً على عقب، كما في مهارتهم في تدجين الشَّعب إلى حدِّ دفعه لتبرير ارتكاباتهم وغفران خطاياهم، وتَأقلمه مع سياساتهم ومقارباتهم العشوائيَّة وقراراتهم غير المدروسة، وكذلك في حنكتهم في إعادة تسويق أنفسهم كإصلاحيين نهضويين تجدُّديين رغم الكوارث والمآسي التي تسببوا بها بسوء أدائهم ومبادراتهم ومقارباتهم البالية.

 

تكادُ تكون مقاربتهم لتجنّب الفراغ في قيادة الجيش من أسوأ ما قاموا ويقومون به، نظراً لأهميَّة الحفاظ على هيبة الجيش ولرمزيَّته الوطنيَّة ولحساسية المرحلة التي يمرُّ بها لبنان، ومردُّ ذلك لكون المقاربتين اللتين يسوَّق لهما ملتبستين لتفصيلهما على قياس شخص معيَّن رغم مناقبيَّته، فلبنان كلُّه يعلم كما الوسطاء الدَّوليين أن الغرض منهما واحد «التَّمديد لشخص قائد الجيش»، وإن كانت المقاربةُ التشريعية أسوأ من الأخرى، لكون المقاربة التِّشريعيَّة «عبر مجلس النواب» تنطوي على خرق للدستور وبالتالي عرضةً للطعن أمام المجلس الدُّستوري، وأن الفريق المعارض لن يتوانى عن التقدُّم بطعن لعدم دستوريَّة القانون المنوي إقراره بهذا الشَّأن يُوقع من عشرة نواب وما فوق، ولكون المقاربة الإجرائية ذات طابع إداري «عبر مجلس الوزراء» عرضة للطَّعن أمام مجلس شورى الدَّولة من الفريق المنوّه عنه وكثر ممن تتعارض مصلحتهم مع التَّمديد لمخالفتها آليَّة التمديد للنصِّ القانوني الذي يوجب أن يجرى التَّمديد بناءً على اقتراح من وزير الدِّفاع الرافض لهذا الأمر، وأخيراً لكون هذه المقاربة لن تقتصر على التَّمديد لقائد الجيش بل ستُستغلُّ لتَمرير مآرب أخرى.

 

الخطورَةُ في الأمر أن المقاربتين المُسوَّق لهما كما رفضهما مبنيَّة على مكائد ونكايات سياسيَّة لا اعتبارات وطنيَّة صرفة، ذلك أن المقاربتين كما رفضهما وفق الآليات المعلن عنها تنطوي على تقويض لهيبة الجيش بجعله محلًّا للمساومات السياسيَّة، وتجاهلاً لمبدأ التَّسلسل الرتبوي الذي يحكم أسس انتقال القيادة وحقِّ الإمرة في القطعات العسكريَّة، ولتوضيح ذلك ندعو لنتصوَّرَ أننا في معرض معركة سقط فيها قائد أو أكثر صريعاً في ساحة المعركة، فالأصول والأدبيات العسكريَّة تقضي بأن يتولى القيادة والإمرة حكماً من هو أعلى رتبة بين الباقين، والمقاربتان توحيان بأن الجيش خلوًّا ممن هو قادر على تولي قيادته ولو مؤقَّتاً، وتنطويان على تفويتٍ للفُرص على قادة آخرين مؤهلين لتولّي هذه المسؤوليَّة، ويستحقون تولّي المنصب في حال شغوره، أمَّا أخطرُ ما في الأمر فهو خروجه عن الأدبيات السياسيَّة والإنزلاق في أوحال التَّطاول على الكرامات والتَّجريح الشَّخصي.

أما الحقيقة المُرَّة، والتي يتحاشى كثر الإشارة إليها، تكمن في أن غالبيَّةَ الحُّكام يعلنون خلاف ما يُضمرون، وأنهم بمعظمهم لا يروق لهم وصول أشخاص من ذوي الكفاءة مُستقلين سياسيًّا وغير مُستزلمين لزعامات وضعيَّة في مناصب هامَّة وحسَّاسة أو بقائهم فيها، وهذا ما حال ويحول دون وصول قائد الجيش الحالي إلى سدَّة رئاسة الجمهوريَّة رغم انفراده بكل المواصفات المطلوبة وتمتُّعه بمزايا وطنيَّة رفيعة، وأن مطالبة البعض في انتخابه رئيساً للجمهوريَّة أو التَّمديد له كقائد للجيش نابعٌ من رغبة في النكايةٍ السياسيَّةٍ بخصومهم السياسيين، وأن الرَّافضين لانتخابة كما للتَّمديد له فموقفهم نابعٌ من اعتبارات سياسيَّة خاصَّة، وكلا الموقفين بعيداً عن الاعتبارات والمصالح الوطنيَّة العليا.

 

الحل الأنسب لا بل الأمثل يكون بالإلتزام بالأصول الدُّستوريَّة وروحيَّة القوانين النافذة، ووضع حدٍّ لتعطيل المؤسَّسات الدُّستوريَّة وخرق الدُّستور وانتهاك القوانين والكف عن المُهاترات والخُزعبلات السياسيَّة؛ أمَّا البدايةُ فتكون بالدَّعوة إلى جلسة مفتوحة لانتخاب رئيس للجمهوريَّة، وليكن قائد الجيش الحالي من بين المُرشَّحين بل في صدارتهم، وكنت سبَّاقاً في المناداة بانتخابه، لتمايزه بمزايا وطنيَّة جامعة، جعلته محصَّناً تجاه الإصطفافات الفئويَّة؛ ولتأخذ العمليَّة الديمقراطيَّة مداها، وليفُز في المنصب من هو أجدى وأكثر تناسبًا مع خصوصيَّة هذه المرحلة السياسيَّة التي يمر بها لبنان ومنطقة الشَّرق الأوسط برمَّتها، وذلك تجنُّباً المزيد من الإنزلاق في آتون المتاهات والأزمات التي نتخبَّطُ بها. وليُصر بعد ذلك إلى تشكيل حكومة على وجه السُّرعة، ومبادرتها إلى إجراء ما يلزم من تَعيينات وليكن أولها تعيين قائد أصيل للجيش، وإلَّا فليكتفى بتسمية ضابط من الضُّباط الأعلى رتبة في الجيش لتولي مهام القيادة مؤقَّتًا ولحين تعيين قائد أصيل بعد انتخاب رئيس للجمهوريَّة، مع الحرص على الحفاظً على التَّوازنات القائمةِ حاليًّا.

واستطراداً فإن قائد الجيش إن كان مقتنعاً أنه أهلٌ لتولي منصب رئيس الجمهوريَّة، عليه أن يبادر إلى رفضَ كل هذه البازارات التَّمديديَّة المبنيَّة على مساومات سياسيَّة رخيصة تستهدفُ تقويض مكانة قيادة الجيش والمسِّ بكرامته، وأن يتجنَّبَ أن يُسجَّل عليه السكوت أو الرضى عن أية خروقات دستوريَّة أو انتهاكات قانونيَّة ولو صبَّت في صالحه، لأن رئيس الجمهوريَّة هو المؤتمن على صون الدُّستور واحترام القوانين؛ ولمن الشَّرف مغادرةُ اليرزة عند استحقاق تاريخ التَّسريح، والذهاب إلى المنزل مع الإحتفاظ بالقيم والمناقبيَّات العسكريَّة، واستكمال الرسالة الوطنيَّة بالتَّفرغ لخوض غِمار الانتخابات الرئاسيَّة وفق الأصول الدُّستوريَّة، لأن تولي قيادة الجيش وإن كان يسهم في كشف المزايا الشَّخصيَّة القياديَّة والوطنيَّة، إنما لا يصنعها، وينبغي ألَّا يستغل المنصب كوسيلة للتَّسلُّق إلى رئاسة الجمهوريَّة، ولأن المزايا المنوه عنها لا تتغيّر بإبدال البزَّة العسكريَّة بأخرى مدنيَّة.

إن السياسيين الممسكون بمفاصل الحياة السياسيَّة في لبنان مدعوون، وقبل فوات الأوان، لتحكيم ضمائرهم، لتجنيب لبنان واللبنانيين مغبَّة السقوط الكبير وقبل الانهيار الكامل لسلطات الدولة كافَّة ولقطاعها العام. كما للإستجابة للمناشدات الدَّوليَّة الصَّادقة التي تبدي حرصاً على لبنان، ولكل الأصوات الوطنيَّة الخالصة.

وإني إذ أناشد الحُكَّام للتَّحرك سريعًا وقبل فوات الأوان، لتَدارك انهيار أضحت مؤشراته واضحة، أذكرُهم بأن التاريخ لن يرحم، والعودة عن الخطأ فضيلة ولمن شيم كرام النُّفوس؛ أوجه مناشدتي هذه، موضحاً أنها لا تنطوي على مزايدةٍ أو مسايرةٍ إنما تصويباً للأمور وتوخِّياً لمصلحة الوطنيَّة العليا.

* عميد متقاعد